حلقة 9
الفصل السادس من المقالة الخامسة
في 23 ذو الحجة 1245هـ / 24 يونيو 1830م، وصل الأسطول الفرنسي إلى الجزائر
واحتلتها القوات الفرنسية، وكان ذلك في أواخر عهد الملك شارل العاشر Charles ، من أسرة بوربون،
التي عادت إلى الحكم بعد سقوط نابليون
ثم أطيح بشارل العاشر بثورة أغسطس سنة 1830م، دون أن تغير عودة أسرة بوربون ولا
الإطاحة بها من المسار الماسوني لفرنسا
الذي بدأ
مع ثورة ماسونها سنة 1789م.،
وإبان حملة فرنسا على الجزائر كان رفاعة الطهطاوي في السنة الرابعة من
بعثته في باريس، فكان هذا ما كتبه عن غزو فرنسا للجزائر في كتابه: تخليص الإبريز:
(( اعلم أنه جاء إلى الفرنساوية خبر وقوع بلاد الجزائر في أيديهم قبل حصول هذه
الفتنة بزمن يسير" الثورة على الملك وخلعه" فتلقَّوا هذا الخبر من غير
حماسة، وإن أظهروا الفرح والسرور به، فبمجرد ما وصل هذا الخبر إلى رئيس الوزراء
«بولنياق» أمر بتسييب مدافع الفرح والسرور، ولقد صدق من قال:
وكم سرور
طيَّه أحزان لأجل هذا خُلِق الزمان
وصار يتماشى في المدينة كأنه يظهر العجب بنفسه؛ حيث إن مراده نفذ، وانتصرت
الفرنساوية في زمن وزارته على بلاد الجزائر، فما كانت أيام قلائل إلا وانتصرت
الفرنساوية عليه، وعلى ملكه نصرة أعظم من تلك، حتى إن مادة الجزائر نسيت بالكلية
وصار الناس لا يتحدثون إلا بالنصرة الأخيرة: على أن حاكم الجزائر خرج منها بشروط،
وأخذ منها ما يملكه، وملك الفرنسيس خرج من مملكته يتندم على ما وقع منه، وللزمان
صروفٌ تدول، وأحوال تحول، وكان هذا هو عاقبته على غارته على بلاد الجزائر بأسباب
واهية لا تقتضي ذلك، بل بمجرد إرضاء هوى النفس، وإذا نصر الهوى بطل الرأي
مما وقع أن المطران الكبير لما سمع بأخذ الجزائر، ودخل الملك القديم الكنيسة يشكر
الله - سبحانه وتعالى - على ذلك جاء إليه ذلك المطران ليهنيه على هذه النصرة، فمن
جملة كلامه ما معناه: أنه يحمد الله - سبحانه وتعالى - على كون الملة المسيحية
انتصرت نصرة عظيمة على الملة الإسلامية، ولا زالت كذلك - انتهى -
مع أن الحرب بين الفرنساوية وأهالي
الجزائر إنما هو مجرد أمور سياسية، ومشاحنات تجارات ومعاملات ومشاجرات ومجادلات،
منشؤها التكبر والتعاظم.
ولو
كانت المشاجرة شجراً لم تثمر إلا ضجرا
هل تنبهت
أن الطهطاوي تلميذ المستشرقين لم يطح بالعقائد والتاريخ واللغة من فهم أسباب حملة
فرنسا على الجزائر والحكم عليها فقط، بل أثمرت فيه تربيتهم وهم "يهود
وماسون" فأخرجت غزو الجزائر من ذهنه ونفسه، ولم يعد يرى بها ولا من خلالها. ،
وبخلو ذهنه ونفسه من العقائد والتاريخ واللغة، ومن الروابط التي تصنعها تلقائية في الأذهان والنفوس،
ومن المشاعر التي وجدها في الوجدان، انقطعت صلته ببلاد العرب والمسلمين
صارت
الجزائر العربية المسلمة بلادا لا يعنيه من أمرها شيء، ولا يسوؤه أن تحتلها فرنسا،
بل ويبحث عن تبريرات لهذا الاحتلال تحفظ في نفسه صورة فرنسا التي يهيم بها، والتي
حلت في تكوينه محل بلاد العرب والإسلام، وصار شكل المسألة وتوصيفها عنده أن فرنسا
في حرب ومشاجرة مع الجزائر لأسباب سياسية وتجارية، ومن ثم فلا شأن له بها.
نلاحظ
أن الذي أوصل الطهطاوي إلى هذا التأويل والفهم هو انطلاقه من مقدمة مادية فكانت
النتيجة فاسدة بالتبعية لأنه كان أسير التفسير المادي للظواهر والأحداث التاريخية
هكذا بشر الطهطاوي الأمة الإسلامية بدين الغرب الجديد وبقوانين الغرب وأخلاقهم!!
ونتيجة خلطة الطهطاوي لأهل فرنسا وعلمائها وانبهاره بقوانينهم وسلوكياتهم، نراه
يتأثر بالتفسير المادي في قراءة الأحداث التاريخية، فلاعجب إذن أن ينظر الطهطاوي
إلى اعتداء فرنسا على الجزائر من منظور مادي
فالخلافات التجارية والمشاحنات المالية مع التكبر والتعاظم هو سبب الإعتداء!!
وتغاضى الطهطاوي عن الباعث الحقيقي للعدوان الفرنسي وأغفل الجانب العقائدي
طبعا التفسير المادي للتاريخ هو من اسس نظرية ماركس الشيوعية ، وقد تشبع الطهطاوي من
فلاسفة المستشرقين بذلك التفسير المادي
كانت هذه تقدمة لإلقاء الضوء على فكر ومنهج الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي واضع
النطفة الأولى للعلمانية في العالم العربي والإسلامي؛ هذه النطفة الأولى التي وضعت
في رحم أمتنا على حين فرقة من المسلمين وعلى حين ضعف وغفلة في بلاد الإسلام! وطفق
السلخ يكبر في رحم الأمة حتى صار تنيناً مخيفاً يبتلع في جوفه كل القيم بلا
استثناء!!
ونقارن
موقف رفاعة الطهطاوي ربيب المستشرقين من غزو فرنسا للجزائر، بما يرويه الجبرتي من
أنه في أول شهر رجب 1213هـ / 9 ديسمبر 1798م، بعد وصول حملة نابليون والماسون في
فرنسا إلى مصر:
"تاجر مغربي يقال له الشيخ الكيلاني، كان مجاور بمكة والطائف، فلما وردت
أخبارالفرنسيس إلى الحجاز، وأنهم ملكوا الديار المصرية، انزعج أهل الحجاز لذلك،
وضجوا بالحرم وجردوا الكعبة، وأن هذا الشيخ صار يعظ الناس ويدعوهم إلى الجهاد
ويحرضهم على نصرة الحق والدين، وقرأ
بالحرم كتابة مؤلفة في معنى ذلك، فاتعظ جملة من الناس ويذلوا أموالهم وأنفسهم،
واجتمع نحو الستمائة من المجاهدين، وركبوا البحر إلى القصير" ميناء مصري على
البحر الأحمر " مع ما انضم إليهم من أهل ينبع وخلافه، فورد الخبر في أواخره
(أواخر رجب) أنه انضم إليهم جملة من أهل الصعيد وبعض أتراك ومغاربة، ممن كان خرج
معهم مع غزو مصر عند وقعة إنبابة، وركب الغز معهم أيضا، وحاربوا الفرنسيس"
فتأمل
الفرق بين الطهطاوي الذي لم يزعجه في غزو فرنسا للجزائر شيء، وبين أهل الحجاز
الذين انزعجوا وضجوا، عند وصول خبر نزول الفرنسيس مصر، ثم قام مجاور للحرم من أهل
المغرب ليقود عرب الحجاز ويعبر بهم البحر الأحمر، وانضم إليهم الأتراك والمغاربة
وأهل الصعيد، ليتوحد الجميع تلقائيا من أجل جهاد الفرنسيس الذين غزوا مصر، دون أن
يقعدوا متعللين بأنها مجرد أمور سياسية ومشاحنات تجار، أو أن الحجاز والمغرب لا
علاقة لها بما يحدث في مصر، مع أن منشور نابليون الأول إلى أهل مصر موه الغاية من
الحملة فعلا في أسباب سياسية وتجارية.
الفرق بين
المغاربة وعرب الحجاز وبين الطهطاوي، هو الفرق بين الأذهان والنفوس التي بناها
الإسلام وكونتها دولته وبين الأذهان والنفوس الأمية التي صنعتها الدولة الماسونية
التي أقامها محمد على، ومعامل اليهود والماسون التي أرسلهم إليها.
وستعرف
معنى عبارة الطهطاوي وما يعنيه موقفه من غزو فرنسا للجزائر، والغاية الخبيئة من
التربية التي رباها له اليهود والماسون، وما غرسوه في تكوينه وتكوين مراهقي الدولة
إذا نزعت فرنسا والجزائر، ووضعت مكانها اليهود وفلسطين!
فهذه هي غاية الغايات
من إرسال الشباب من مصر لتربيتهم في فرنسا، تكوين أجيال عمياء خالية من روابط
العقائد واللغة، فلا تفهم ما يحدث ولا تدركه على حقيقته وأذهانها ونفوسها موصولة بالغرب اليهودي
الماسوني، ومقطوعة الصلة بالإسلام وتاريخه وبلاده، ولا يعنيها ما يحدث فيها، ثم
إذا حاكاها كل بلد من بلاد العرب والإسلام، وتكونت فيه نخبة من هذا الطراز الضال
الذي رباه اليهود والماسون، تفككت وبان ما بينها، وتفسخ الشرق وصار مؤهلا لاحتضان
المشروع اليهودي، دون أن يفرق عند أي نخبة من هذه النخب الضالة أن يكون من في
فلسطين من العرب أو اليهود، أو أن تكون القدس قدس أو أورشليم فالأجيال التالية من هذا الطراز التي صعدت إلى
سطح مصر مع تقدم المسار اليهودي الماسوني، وأمسكت بمقاليدها في كل المجالات،
سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية وأدبية وفنية، في حراسة الإمبراطوريات
الماسونية، وبسطوة جيوشها، هي التي صنعت وجود دولة اليهود، ثم تتمدد من خلالها
----------------------
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق