الاثنين، 29 يوليو 2024

 حلقة 81

 وكانت الدفعة الأولي من أتباع جماعة الفيلسوف الفرنسى سان سيمون ـ الذى كان من بين تلامذته «أوجست كانت» من رواد الحركة الفكرية الفرنسية في القرن الـ19 ــ قد وصلت إلي الاسكندرية فى سبتمبر 1833 وعلى رأسها الأب «انفانتان» الذى حمل لواء فكرة أن شق قناة السويس أمر واجب التنفيذ وكتب بروح صليبية عن القناة «نشق أحد الطرق الأوروبية الجديدة بين مصر العريقة ومملكة يهوذا صوب الهند والصين ونضع قدمًا على النيل وأخرى فى أورشليم»
وقد قابل الأب «انفانتان» محمد على وأبدى له إعجابه بالقبض على زمام السلطة في البلاد، ومن أنه يستطيع توجيه مئات الآلاف من العمال لإتمام مشروع القناة التي يحلمون بها كما فعل من قبل في شق ترعة المحمودية، ورفض محمد على قائلا عبارته الشهيرة «لا أريد بسفورا في مصر يسبب لها مشاكل خاصة وأن بلادى المطموع فيها أصلا سوف تصبح بسبب قناتها مسرحا للمطامع السيئة».
ورغم أن شق قناة السويس كان أحد الأهداف الاستراتيجية للحملة الفرنسية فإن المهندسين المصاحبين لها بعد قيامهم لمدة عام بدراسة مستفيضة علي أرض الطبيعة قدموا لنابليون فى تقريرهم مع نهاية عام 1799م باستحالة حفر تلك القناة لاعتقادهم أن مستوى مياه البحر الأحمر يرتفع عن مستوى المتوسط بـ33 قدمًا.. وكانت غلطة أجلت الدوشة!
وأبدًا لم يكن محمد علي رافضًا لأى مشروع يجلب الخير لمصر، لكن عينه الثاقبة كانت دائما علي أمن مصر وأن تكون القناة لمصر لا مصر للقناة، وأن فرنسا ومصر متى حفرت قناة السويس فإن انجلترا هى التى ستنام فيها
وعلي غرار محمد علي سار خلفاؤه إبراهيم وعباس في رفض حفر القناة.. إبراهيم الذي كان يعد نفسه مصريًا إلي حد أن أحد جنوده خاطبه في نطاق الحرية التي كان إبراهيم يُشجِّع عليها رجاله قائلا له: كيف تطعن الأتراك في كـلامك وأنت منهم؟ فأجابه إبراهيم: أنا لست تركيًا فإني جئت إلى مصر مع أبى من «قولة» طفلا ومنذ ذلك الحين مصرتني شمسها وغيَّرت دمائى لتجعلنى قلبا وقالبا ابن مصر.. ورغم فتوحاته وانتصاراته فقد حافظ علي احترامه وإجلاله لأبيه إلي حد لم يكن يسمح لنفسه بالتدخين في حضرته، بينما استقبلته الملكة فيكتوريا فى قصر بيكنجهام وأقامت له حفل عشاء ضخم واستغرق موكبه في فرنسا أكثر من ساعتين حتى يجتاز المسافة الفاصلة بين المحطة وقصر الإليزيه حيث أقام في جناح نابليون بونابرت.. ولم تزد مدة حكم إبراهيم على السنة والنصف من ابريل 1847 حتى نوفمبر 1848 وكانت وفاته صدمة هائلة للأب المريض الحزين «محمد على» الذي أنشأ أمة وأسس دولة وشيّد دعائم حضارتها..
و..من بعد إبراهيم يأتي عباس الذي يكره الأجانب ويتحاشي إعطاءهم أي امتيازات، ولم يمد يده للاستدانة منهم وكان يعمل علي سد عجز الميزانية دون اللجوء إلي القروض، واكتفي بإصلاح الطريق بين القاهرة والسويس، وأمر بإغلاق مستشفي القاهرة والمؤسسات الملحقة به كمدرسة الطب والأمومة ومدرسة التمريض التى تخرج القابلات ومراكز التطبيب، قاضيًا بذلك دفعة واحدة على كل العناء الذى تكبده كلوت بك، وعلي مستوى التعليم فلم يعره اهتمامًا ليتناقص عدد المدارس وكأنما خلق ليكون الصورة المعكوسة لجده فى جميع منجزاته،
حلقة 82
 وعندما مات محمد على فى استانبول فى 2 أغسطس 1849 نقل جثمانه للقاهرة على ظهر مركب بخارى استخدم قناة المحمودية التي شقت بأمر منه قبل ثلاثين عاما ثم سارت فى النيل، وفى 4 أغسطس وضع النعش في مسجد القلعة، حيث أراد لقبره وتم الدفن بلا موكب ولا مرافقة عسكرية تبعا لأوامر الحفيد الخديو عباس الذى مات مقتولا في قصره المعزول بمدينة بنها في 14 يوليه1854 بتحريض من عمته نازلي هانم.. وما كاد سعيد يتبوأ الأريكة حتي يرقص فردينان ديليسبس فرحًا فقد أوشك علي تحقيق حلم شق القناة فأرسل يهنئ سعيد صديق الطفولة البدين عاشق المكرونة الذي كان يهرع إلي القنصلية الفرنسية أيام كان قنصلها والده ماتيو ديليسبس ليلتهم أطباق الاسباكيتي الشهية معه لتنمو بينهما أواصر صداقة لم تنقطع إلا بعودة القنصل الفرنسي لدياره..
ويكتب فردينان في مذكراته: «لقد استقبلني محمد سعيد باشا بمودة بالغة».. وتتكرر اللقاءات ويرسل سعيد لضيفه الفرنسى فرسا عربيا أصيلا اسمه «عنيزة» وأثناء مناورات الجيش أراد فردينان إظهار قدراته فى الفروسية فأطلق عنان عنيزة وما أن وصل حاجز الصخر حتى قفز من فوقه بمهارة أثارت الجميع، واستمر في انطلاقه ليصل إلى حيز الخيام، ومنها يعود لموقع الأمير ورجاله ليجدهم فى حالة نشوة من جرأة الفارس وقوة الحصان وجمال الحركة
 وهنا لمعت الشرارة فى رأس الفرنسى فقد أدرك أن فى الإطار مناخ إعجاب وترحيب وأنه قد حان الوقت لمصارحة الأمير بمشروع حياته ليكتب عن تلك اللحظة الحاسمة في مذكراته:
«كان الباشا مغتبطا فأخذنى من يدي واحتفظ بها في يده برهة ثم أجلسنى إلي جواره وكنا وحدنا وفتحة الخيمة تسمح بمشاهدة شمس الغروب ونسمة الجنوب تلثم جباهنا.. وساعتها عرضت المشروع دون دخول فى تفاصيل مزعجة، واستمع سعيد باهتمام، ورجوته أن يتفضل بإبداء شكوكه فذكر بذكاء كبير بعض الاعتراضات التي كان في جعبتى إجابات شافية عنها فقال:
 «إنني مقتنع وموافق ولسوف نشغل أنفسنا عبر رحلتنا ببحث وسائل التنفيذ ويمكنك الاعتماد علي»..
ويصدر مرسوم الأمير سعيد بشأن مشروع حفر قناة السويس بديباجة هي أقرب إلي العشق منها إلي الصداقة والود حيث قال: «إلي صديقي المخلص الكريم المنبت، العظيم الخِصال، العالي المقام، الفارس الهُمام المسيو فردينان ديليسبس الذي خولناه بموجب هذه الوثيقة السلطة التامة لتأليف شركة عامة لحفر برزخ السويس واستغلال القناة التي ستصل بين البحرين الأبيض والأحمر.. وبموجب المرسوم قدم سعيد إلي هذه الشركة جميع الأراضي التي تمر بها القناة والتي علي جانبيها مجانا، مع إعفائها من كافة الرسوم والعوايد، ومنحها حق استخراج ما يلزمها من مواد البناء من المحاجر الأميرية مجانا، وانفرادها بدخل القناة لمدة 99 عاما.. كما منح سعيد الشركة الفرنسية حق حفر ترعة مياه حلوة من فرع النيل إلي منطقة القناة للارتواء منها دون مقابل، بل وأضاف أنه إذا أراد أصحاب الأطيان المجاورة ري أراضيهم فعليهم أن يدفعوا ثمن المياه للشركة الأجنبية.. و..كانت المادة العاشرة من المرسوم الشيطانى تقول: توفر الحكومة المصرية للشركة كل القُفف اللازمة لنقل الأتربة ومواد البناء، وكذلك البارود اللازم لاستغلال المناجم!!!
و..فجأة وسط المد الهمايونى يرسل سعيد إلى ديليسبس يستدعيه من منطقة الحفر بالسويس علي عجلٍ ليُطلعه علي رسالة من الباب العالي يخبره فيها بامتعاضه من استمراره في مشروع القناة دون علم مسبق أو الموافقة النهائية من السلطان، فما كان من ديليسبس إلا أن نصح الأمير المتخوف بأن يسير علي نهج سياسة رؤساء المجالس المحلية في إسبانيا عندما تردهم أوامر ملكية عليا يرونها تتعارض مع مصلحة البلد التي يقع تحت لوائهم فكانوا يقولون بالإسبانية
Seacutapero أي نحترمه لكننا لا ننفذه، وارتاح سعيد للنصيحة، أما ديليسبس فقد عاد لمواصلة العمل، ولم يكن الاثنان يعلمان أنه آخر لقاء بينهما، فقد سافر سعيد بعدها إلي أوروبا للاستشفاء من مرض عضال ليعود إلي الإسكندرية وقد تدهورت صحته إلي حد الرحيل في 18 يناير 1863 وله من العمر 42 عاما ليُدفن بمسجد النبي دانيال بعد حكم 8 أعوام و9 أشهر و6 أيام.. ليأتي من بعده إسماعيل الذي أضاف إلي اسمه لقب «الخديو» وأصله صفة مشتقة من كلمة «خيفا» وهي اسم فارسي يعني الرباني أو الإلهي، ولم يفز إسماعيل باللقب بالمجان.. ويندفع الخديو في البذخ وفي غزوات لا طائل من ورائها، وفي مشاريع وهمية كثيرة ليقفز الدين القومي في زمن قليل من ثلاثة ملايين إلي المائة مليون، ومع اقتراب افتتاح القناة في 17 نوفمبر 1876 تدور عجلة الإسراف بجنون لإقامة احتفالات تستمر 4 أيام، تسلط منها أنوار الماغنسيوم علي الأهرامات، ويستدعي من فرنسا وإيطاليا 500 طباخ و1000 سفرجي لتقديم الأطعمة لستة آلاف مدعو بينهم أباطرة وملوك وأمراء ونبلاء وسفراء ومراسلو صحف أجنبية، في الوقت الذي تم فيه تجاهل السلطان التركي.. واستغل ديليسبس علاقته ببلاط الإمبراطور نابليون الثالث وصلته العائلية بالإمبراطورة أوچيني ابنة خالته فدعاها لتكون علي رأس المدعوين
(( نابليون الثالث إمبراطور فرنسا ( 1852 ـ 1870م)، الإمبراطورية الثانية، وهو ابن لويس بونابرت ملك هولندا، وأخو نابليون الأول، وقد ولد في باريس عام 1808م، وتوفى في 1873م، بعد ثلاث سنوات من سقوط إمبراطوريته))

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق