حلقة 33
ويوجد في «باريس» أيضًا مكاتب تسمى: «البنسيونات» جمع «بنسيون» وهي مكاتب يتعلم فيها الصغار الكتابة والقراءة وعلوم الآلات كالحساب، والهندسة، وغيرها، كالتاريخ، والجغرافيا، وهي نحو مائة وخمسين (بنسوينا) وفيها إقامة كاملة نظير قدرًا معلومًا في السنة.وغير البنسيونات المذكورة يوجد بيوت صاحبها عالم، فيأخذ عنده عدة أولاد، ليأكلوا معه، ويشربوا معه، ويعلمهم بنفسه، أو يحضر لهم معلمين عنده.
وغير هذا كله فكثير من الناس يحضر لأولاده المعلم في البيت كل يوم ليعلمهم عهده.
ومن الأشياء التي يستفيد منها الإنسان كثيرا من الفوائد الشاردة الصحف اليومية «الجرنالات Journaux» جمع «جرنال Journal» وهي ورقات تطبع كل يوم، وتذكر كل ما وصل إليهم علمه في ذلك اليوم، وتنشر في المدينة وتباع لسائر الناس، وسائر أكابر «باريس» يرتبونها كل يوم، وكذلك سائر القهاوي، وهذه «الجرنالات» مأذون فيها لسائر أهل فرنسا أن تقول ما يخطر لها، وأن تستحسن وتستقبح ما تراه حسنًا أو قبيحًا، وأن تقول رأيها في تدبير الدولة، فلها حرية تامة ما لم تضر فإذا سببت الضرر فإنه يحكم عليها وتطلب بين يدي القاضي.
«والصحف» أحزاب، فكل جماعة لها في رأيها مذهب كل يوم تقويه وتحاميه، وتؤيده، ولا يوجد في الدنيا أكذب من «الجرنالات» أبدًا خصوصًا عند الفرنسيس الذين لا يتحاشون الكذب إلا من حيث كونه عيبًا.
وبالجملة فكتاب «الصحف» أسوأ حالاً من الشعراء عند تحاملهم أو محبتهم.
«والصحف» مختلفة الأنواع والأصناف، فمنها ما هو معد لذكر أخبار داخل مملكة الفرنسيس وخارجها، ومنها ما هو مخصوص بأمور المملكة فقط، وما هو للمعاملات وما هو للطب. ولكل علم على حدته؛ كعلم الطب إلى آخره
والجرنال الواحد ينطبع منه غالبًا للبيع خمسة وعشرون ألف نسخة، وكل جرنال تكثر نسخه على حسب رغبة الناس، وأرباب الصحف يعرفون الأخبار الغريبة قبل غيرهم؛ لأن لهم مراسلات مع سائر البلاد، وهم في الواقع كخطباء الأمة يتعرضون للمدح والذم، والاستحسان والاستقباح، والتحسين والتقبيح، والإغراء والتحذير، إلى غير ذلك، وقبلهم في ذلك المؤلفون، وربما اتخذ المؤلفون خطابات أرباب «الصحف Gazettes » مادة لهم وأعلى درجة منهم أرباب الخطابات بالجمعيات العمومية الذين هم من أعضاء المجالس، وهم أعلى طبقة في الاعتبار من الشعراء
و هذا هو نظام العرب في قديم الزمان، فقد قال أبو العلاء المعري «كان الشاعر في الجاهلية يقدم على الخطيب؛ لفرط حاجتهم إلى الشعر، الذي يقيد عليهم مآثرهم ويفخم شأنهم، ويهول على عدوهم، ومن غزاهم، ويهيب من فرسانهم، ويخوف من كثرة عددهم، ويهابُهم شاعر غيرهم، فيراقب شاعرهم، فلما كثر الشعر والشعراء واتخذوا الشعر مكسبه ورحلوا إلى السوقة، و اتخذوا إلى أعراض الناس طريقاً صار الخطيب عندهم فوق الشاعر
ولذلك قال المعري "الشعر أدنى مروءة السري " السّريّ: صاحب الشرف والمروءة
وأسرى أي أشرف مروءة الدنيّ"
ولقد حط قول الشعر من قدر النابغة الذبياني، ولو كان في الدهر الأول ما زاده إلا رفعة
ومن جملة علوم «باريس» الدفاتر السنوية، والتقويمات الجديدة، وجداول الزيج المصححة، ونحو ذلك، فكل سنة يظهر فيها كثير من (الروزنامات) المشتملة على التواقيع وعلى غرائب العلوم والفنون، وعلى كثير من أمور الدولة، وعلى تسمية أكابر الدنيا، وتسمية أعيان فرنسا، وتعيين بيوتهم ودرجاتهم ووظائفهم، فإذا احتاج الإنسان إلى اسم واحد، وإلى بيته راجع في ذلك الكتاب
وفي «باريس» (غرف) القراءة أو خلوات القراءة، فيذهب الإنسان فيها، ويدفع قدرًا معلومًا، ويقرأ سائر «الجرنالات» وغيرها من الكتب، ويستأجر منها ما يحتاجه من الكتب ويأخذه عنده ويرجعه.
ومما يبهر العقول في باريس دكاكين الكتبية وخاناتهم، وتجارات الكتب، فإنها من التجارات الرائجة مع كثرتها وكثرة المطابع، وكثرة التآليف التي تنطبع كل سنة فإنها يعسر حصرها، وأغلبها المقصود منه الكسب لا النفع، ولا تمر سنة بمدينة «باريس» إلا ويخرج من المطبعة كتب معدومة النظير، واغتناؤهم بالمعارف هو أحسن ما ينبغي أن يمدحوا بهن قال الشاعر:
إذا شئت أن تحظى من الكتب كلها بأطيب مروي وأحسن مسموع
فطالع مجاميع الدفاتر، إنها تفرق من همِّ الفتى كل مجموع
ويقول أبو الحسن السري بن أحمد بن السري الكندي وهو من شعراء العصر العباسي مدح سيف الدولة الحمداني ثم عاد الى بغداد
اجعل جليسك دفترًا في نشْره ليريك من حكم الزمان نشورا
ومفيد آداب، ومؤنس وحشة وإذا انفردت فصاحبًا وسميرا
وبالجملة فلا يمكن وصف مدينة «باريس» مع تفصيل علومها وفنونها، إلا أنه يمكن التعبير عن ذلك إجمالاً كما ذكر الطهطاوي
----------------------
المقالة الرابعة الفصل الأول
كيف تعلم الطهطاوي القراءة والكتابة وغيرهما من الدروس والعلوم ؟؟
إستكمل الطهطاوي دروسه في اللغة في مرسيليا في نحو شهر وكانت الكتب بها الحروف الأبجدية بخط كبير وبعدها عدة ألفاظ لغوية من الأسماء والأفعال ثم جمل صغيرة سهلة التركيب للصغار مثل هذه فرس لها أربع أرجل، والطيور ليس لها إلا رجلان، لكن لها أجنحة تطير بها، وأما السمك فإنه يسبح في الماء وهكذا
وفي الكتاب أوصاف الحيوانات المعروفة، خصوصًا التي يحبها الأطفال مثل من العصافير، والطيور، والسنانير
ثم نبذة صغيرة في كيفية سلوك الصغار وطاعتهم للوالدين ثم نبذة في علم الحساب
وبعد الكتاب الأولي بدأت دروس النحو الفرنساوي والتاريخ والتصوير مع معلم الرسم ودرسًا مع معلم الخط لتعليم قواعد الكتابة.. الخ
وفي باريس مكث أعضاء البعثة في بيت واحد، وكانوا يدرسون التاريخ في الصباح نحو ساعتين و بعد الغذاء كتابة ومخاطبات ومحاورات باللغة الفرنساوية: ثم درس رسم، و نحو فرنساوي
ظل أفراد البعثة يدرسون الحساب والهندسة والتاريخ والجغرافيا حتى سهل الله علينا بالرجوع
بعد السنة الأولى تفرق أعضاء البعثة في مكاتب "بنسيونات" متعددة، كل اثنين، أو ثلاثة: أو واحد منا في مكتب مع أولاد الفرنساوية، أو في بيت مخصوص عند معلم مخصوص بنظام الإقامة الكاملة ( طعام وإقامة وتعليم )
كان يشتري لنا من طرف (الميري) أخشاب للتدفئة و القمصان والسراويل والنعال وسائر ما يلزم من الآلات والأدوات، مثل الكتب والورق والحبر وأقلام التصوير وغيرها، ومصاريف العلاج وأجور الأطباء
لم يكن مسموحا لأعضاء البعثة الخروج ليلاً ولا نهارًا إلا يوم الأحد بتصريح من الضابط المشرف عليهم ، وبعد تفرقهم في البنسيونات كانوا يخرجون أيام العطلات،
------------------
الفصل الثاني من المقالة الرابعة
«قانون نامة»
وضعه (الأفندية) بعد دخولهم «البنسيونات» وهو خاص بتنظيم خروج ودخول الأعضاء في مواعيد محددة وضوابط السلوك والعقوبات في حالة المخالفة ، وفيه الإمتحان الشهري فيما درسوه وإرسال تقرير بذلك للباشا في مصر
وإتباع قوانين «البنسيون» كأولاد الفرنساوية بالتدقيق والاهتمام في غير الأمور المتعلقة بالدين
قد تصل عقوبة المخالفات الى الترحيل الى مصر كما كانت تتم مكافأة الممتازين منهم بكتب وآلات ونقود
--------------------------
الفصل الثالث من المقالة الرابعة
الفرمانات
كان من المعتاد إرسال محمد على «فرمانًا» كل عدة أشهر لتشجيع أو توبيخ أعضاء البعثة ونصوص بعضها أوردناها في مكان آخر
-------------------------------------
الفصل الرابع من المقالة الرابعة
بعض مراسلات بين الطهطاوي وبين بعض من كبار علماء الفرنساوية غير مسيو جومار و قد أوردنا بعضها في مكان آخر أيضا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق