الأحد، 28 يوليو 2024

 الحلقة 29

الفصل العاشر من المقالة الثالثة
في فعل الخير بمدينة باريس
يتعيش غالب الناس ببلاد الإفرنج من كسب أيديهم ، وإذا فقد القدرة على الكسب فهناك المارستانات المعدة لفعل الخير،
 و مدينة «باريس» من أعمر المدن وأكثرها صناعة ونجامة؛ فلذلك كثرة مارستاناتها
وجمعيات فعل الخير بها نادرة شح أفراد أهلها وبخلهم؛ لما تقدم أنهم بمعزل عن الكرم من العرب، فليس عندهم حاتم طي
وملوكهم ووزرائهم ليس لديهم كرم بني العباس أو البرامكة مثلا
يرون أن إعطاء القادر على العمل شيئًا فيه إعانة له على عدم التكسب
وفي باريس ديوان للمارستانات وبه خمس نظارات
 النظارة الأولى: لمباشرة المارستان
 النظارة الثانية: لمباشرة مهمات المراستان، والخدمة للمرضى والعقاقير العامة
النظارة الثالثة: مباشرة الأوقاف
النظارة الرابعة: مباشرة الفقراء في بيوتهم وإعانتهم
 النظارة الخامسة: مباشرة مصاريف المارستان وتوابعها
و شرط دخول المارستان إثبات المرض ، وإذا خرج المريض قبل تمام الشفاء يتم صرف إعانات له من الأوقاف حتى عودته الى عمله
أكبرمارستان «بباريس» هو  «أوتيل ديو
 Hôtel-Dieu» يقرب أن يكون معناه «بيت الله» وهو موقوف على المرضى والجرحى، ولا يدخل فيه الأطفال ولا أرباب الداء العضال، ولا المجانين ولا النفساء ولا أرباب الأمراض المزمنة، ولا المبتلى بالإفرنجي، فإن كل داء من هذه الأشياء له مارستان خاص( وكانت تديره الكنيسة الكاثوليكية)
وفي «باريس» مارستان يسمى «ستلويز» وهو معد لأرباب الأمراض المزمنة، ولأرباب الدمامل والقوبة، والحكة، والجرب، ونحو ذلك و مارستان اللقطاء الرضع  ومارستان موقوف للتلقيح ضد مرض الجدري
ومارستان للأيتام  يوضع فيه اليتيم بأمر الديوان ويتكفلون به حتى عمر إحدى عشرة سنة  ثم يرسلونه ليتعلم حرفة على نفقة المارستان وقد يتبناه معلم الحرفة بشرط إثبات قدرته على إعالته
مارستانان يسمَّيان «مارستاني الشيخوخة والهرم» فأحدهما للذكور، والآخر للنساء ( دور المسنين)
 ومنها مارستان لأصحاب الداء العضال ، ومارستان العميان ومارستان المجانين وبه مارستان آخر للمصابين في العمليات الحربية وهو من أنظف وأعظم المارستانات، وفيه ستة عشر طبيبًا، وجائحيًا، وستة عقاقيرية لصناعة الأدوية
يوجد «ديوان الإحسان»  لمعونة التجار عند حدوث كوارث لهم مثل الحريق أو الإفلاس
و يوجد ديوان يعطى للفقير الذي وقف حاله أو حدث له ما يعطله مؤقتاً أو به ما يمنعه من العمل 
ومن فعل الخير بمدينة «باريس» فرق الإنقاذ النهري لإسعاف الغرقي
ورغم ذلك فإنه قد يشاهد في طرقها أن بعض الناس الذين لا يذهبون إلى المارستانات الموقوفة ونحوها يقع في وسط الطريق من الجوع
 وربما تراهم ينهرون السائل، ويردونه خائبًا، زاعمين أنه لا ينبغي السؤال أبدًا؛ لأنه إذا كان السائل قادرًا على الشغل فلا حاجة إلى السؤال، وإن كان عاجزًا عنه فعليه بالمارستانات ونحوها
والمتسولين عندهم أصحاب حيل في تحصيل الأموال في غالب الأحوال، حتى إنهم يتشكلون في صورة المجاريح ونحوهم؛ ليشفق الناس عليهم ويرقوا لحالهم
.
ومن فعل الخير أنهم يجمعون عند الحاجة أشياء لمن نكبه الزمان حتى يصير بها غنيًا
-------------------------
الفصل الحادي عشر من المقالة الثالثة
في كسب مدينة باريس ومهارتها ( الوظائف والمهن)
أهل باريس الحقير منهم أو العظيم شغوفين بالمكسب والمال وتحصيله والشغف به ولو به مشقة وصعوبة ، ويذمون الكسل
وأشهر أشغال «باريس» هي معاملات الصيارفة " البنوك" وهم صيارفة المملكة أو (الميري)، وصيارفة «باريس» فإنهم يأخذون ويعطون الأموال بالمرابحة ، وكلاهما يعطيان ربحا على الودائع ولا يعد عندهم هذا الربح ربا إلا إذا زاد عما في القانون ولكن الربح عند صيارفة باريس أقل من الربح عند الصيارفة الميري
ولكن الدولة تضمن الودائع الميري
ومن أمور المعاملات المهمة عند أهل «باريس»: جمعية تسمى «الشركاء في الضمانة» أي شركات التأمين 
وفي مدينة باريس مصانع ملكية وأخرى خاصة  تتولى أشغال الفضة والذهب واتخاذ الآنية منهما، ومنها مصانع الصيني بأنواعه  ومعامل الشمع الإسكندراني ومعامل الصابون والقطن والجلود المدبوغة وغيرها
ويقيمون معرضاً كل 3 سنوات لعرض منتجاتهم التي تزيد جودتها عاما بعد عام على رءوس الأشهاد
وفي باريس عدة خانات عظمى( سوبر ماركت) توجد فيها سائر المبيعات، ووكلاء وحوانيت وبيوت للتجارة أو الصناعة مكتوب على واجهتها اسم التاجر واسم تجارته، وربما اسم المتجر، ولا يمكن مزاولة النشاط إلا بترخيص له ثمن
وللتجارة مدارس خاصة يتعلم فيه التلامذة علم التجارة، وفيها تلامذة من أقاليم عديدة، والتعليم فيها بمقابل للأجانب 
ومن الأمور الإقتصادية الهامة الطرق البرية والمائي؛ مثل صناعة الخلجان والقوارب البخارية وإقامة القناطر، وإنشاء دواوين تسفير العربات الكبيرة (والتليغراف) وهي الإشارة، وتنظيم البريد بالساعي، والبريد بالخيل وغير ذلك
مدينة «باريس» حولها أربعة خلجان تأتي منها المتاجر، وفي نهر السين تسير قوارب على صورة العربات، وقوارب بخارية سريعة 
والعربات في «باريس» مختلفة الشكل والاسم والسير والاستعمال وكلها مقابل أجرة معينة
 عربات معدَّة لوسْق الأمتعة من «باريس» إلى البلاد البرانية، وتسمى «رولاجة  
 Roulage أي التي تسير على عجلات  »   ومنها جنس فاخر لوسقه بالناس ليسافروا فيه، ويسمى «الدلجنس concours d'élégance»
ومنها عربات صغيرة للسفر إلى المحال القريبة من «باريس» تسمى «كوكو
Coucott.»
وهناك عربات تستأجر فترات معينة
 والعربات العادية في «باريس»
هي: «الفياكرة fiacre »  و فيها أريكتان متقابلتان تسعان ستة أنفس، ولها حصانان يسحبانها و «الكيريولة Coucott » ولها أريكة واحدة
 تكون الأجرة بالساعة، أو يستأجر من محل إلى محل آخر، وأجرة محددة وعددها في سائر طريق «باريس» أكثر من وجود الحمير في طريق القاهرة
وقد تجددت الآن عربات كبيرة تسمى «الأمنيبوسة
Omnibus » أي النقل العام، وهي عربات كبيرة تسع كثيرًا من الخلق، ولها خط سير محدد مكتوب على بابها وأجرة محددة وهي موجودة في أمهات خطوط «باريس»
ومن العربات جنس ينقل أمتعة البيوت، ومنها عجلات البياعين ويسوقونها، ويدورون بها في الطريق ليبيعوها، وهذه العجلات قد يسحبها حصان، وقد يسحبها حمار، وقد يسحبها شخص واحد أو مع كلبه، وبها أجناس أخر من العجلات لحمل الحجارة والتراب وغير ذلك
وأما البريد المسمى عند الفرنسيس البوسطة» فإنه من أهم المصالح النافعة في التجارات وغيرها، يسهل فيه إخبار الغير بواسطة المكاتبات التي تذهب ويأتي ردها في أسرع ما يكون. وتدبيرها بكيفيتها التي هي عليها من أعظم ما يمكن، فإن المكاتيب التي تبعث في البلد وأن العمالة تصل إلى صاحبها من غير شك؛ لأن سائر البيوت مكتوب عليها بالرقم عددها المسمى «النمرة» المميزة لكل منزل وكل حارة بها صندوق للبريد يتعامل معه ساعي البريد يوميا
والفرنسيون يحترمون خصوصية المراسلات ولا يمكن لإنسان أن يفتح مكتوبًا معنونًا باسم آخر ولو كان متهمًا بشيء، ولهذا كثرت الرسائل بين الأحباب والأصحاب، خصوصًا بين العشاق وأعلام العشق بين العاشق ومعشوقته يكون بالمراسلة، وبها أيضًا يحصل الوعد بالمواصلة ،  وفي باريس محل لإرسال الطرود مع الساعي أيضًا، من غير خوف أبدًا
والصحف نافعة أيضا للإعلان بالأجرعن السلع وقد يلجأ التجار الى طبع الإعلانات وتوزيعها وفي هذه الإعلانات يذكر اسمه واسم دكانه، وما عنده من المبيع، ويعين القيمة لسلعته
وبالجملة ففي مدينة باريس يباع سائر ما يوجد في الدنيا سواء كان خطيرًا أو حقيرًا، ومن أعظم الأشياء دكاكين العقاقيرية، فيها توجد سائر الأدوية مجهزة، وسائر العقاقير التي وجه الأرض المعروفة الاسم والخاصية
.
وسائر الخلق «بباريس» يحبون الكسب والتجارة، سواء الغني والفقير، حتى إن الصغير الذي لا يمكنه التكلم إلا بالأشياء الصغيرة إذا أعطيته فلسًا يفرح به ويصفق بيديه قائلاً ما معناه بالعربية: كسبت وقنيت؛ ولولا أن كسبهم مشوب في الغالب بالربا لكانوا أطيب الأمم كسبًا، وإذا كسدت تجارة أحدهم كما هو غالب في تلك البلاد فسد حاله، وآل أمره إلى تطلب ما في أيدي الناس، وربما أخذ معه مكتوبًا من أحد الكبار يدل على كساد حاله، وأنه يستحق الإعانة، ويكثر وقوع مثل هذا الأمر في هذه المدينة وإن كثر أخذها وعطاؤها
.
والأمطار والرياح لا تمنعهم عن الخروج إلى أشغالهم، وكأنهم يرون أن اليد الفارغة تسارع إلى الشر، والقلب الفارغ يسارع إلى الإثم
.
وأهل «باريس» أغنياء جدًا، حتى إن المتوسط منهم أغنى من تاجر عظيم من تجار القاهرة، فلا يرضون قول الشاعر
ولا فخر إلا بالنوال وبالعطا وليس بجمع المال عز ولا فخرا
بل يحرصون على الأموال، ويسلكون سبيل الحرص زاعمين أنه يزيد في الأرزاق، ولا يقتدون بقول الشاعر
:
وليس يزاد في رزق حريص ولو ركب العواصف كي يزادا
وقد يوجد بها من أهالي الحرف الدنيئة من إيراده كل سنة أبلغ من مائة ألف فرنك، وذلك من كمال العدل عندهم، فهو المعول عليه في أصول سياساتهم، فلا تطول عندهم ولاية ملك جبار أو وزير اشتهر بينهم أنه تعدى مرة وجار، ولا شك أنه تأسس في قلوبهم قول شاعر
والملك الجبار والمنيع  ما عنده هاد، ولا شفيع
دعية الجبار مرعى الحرب  والملك العادل نصف الخصب
وهذا لا يمنع من أنهم يدفعون (الميري) عن طيب خاطر، لما أنهم يرون أن الخراج عمود الملك إذا دفع كل إنسان منهم ما هو عليه قادر، فمال (الميري) هو قوام صورة الممالك، وإحسان مصرفه في استحقاقه خير مما هنالك، قال الشاعر
:
والمال أس لقيام الصورة  وخير منه صالح المشورة
ولما كانت رعيتهم رائعة كان الدولة عندهم لها إيراد سنوي عظيم، فإن إيراد الدولة الفرنساوية كل سنة نحو تسعمائة وتسعة وثمانين مليونًا من الفرنكات
ومن جملة أسباب غنى الفرنساوية أنهم يعرفون التوفير، وتدبير المصاريف، حتى إنهم دونوه، وجعلوه علمًا متفرعًا من تدبير الأمور الملكية، ولهم فيه حيل عظيمة على تحصيل الغنى، فمن ذلك عدت تعلقهم بالأشياء المقتضية للمصاريف، فإن الوزير مثلاً ليس له أزيد من نحو خمسة عشر خادمًا، وإذا مشى في الطريق لا تعرفه من غيره، فإنه يقلل أتباعه ما أمكنه داخل داره وخارجها وقد سمعت أن قريب ملك الفرنسيس المسمى: الدوق «درليان» وهو الآن السلطان الذي هو من أعظم الفرنسيس مقامًا، وأكثرهم غنى، له من الأتباع وسائر من طرفه من العساكر ونحوها (كالبستانجية) والخدم وغير ذلك نحو أربعمائة نفس لا غير، والفرنساوية يستكثرون ذلك عليه، فانظر الفرق بين باريس ومصر؛ حيث إن العسكري بمصر له عدة خدم

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق