الأحد، 28 يوليو 2024

 الحلقة 30

الفصل الثاني عشر من المقالة الثالثة
دين أهل باريس
دين الدولة هو دين المسيحية «الكاثوليكية» وتم إلغاء هذه المادة من الدستور بعد ثورة 1830م
وهم يعترفون للبابا الذي هو ملك رومة بأنه عظيم النصارى وكبير ملتهم، والكثوليكية هي دين غالب الناس عندهم، وقد يوجد «بباريس» «البروتستانتية» وغيرها، ويوجد بها كثيرٌ من اليهود المستوطنين، ولا وجود لمسلم مستوطن بها
والفرنسيون عموما وغالب ممالك الإفرنج ليس لهم من دين النصرانية غير الاسم، فهم يدخلون في اسم الكتابيين، فلا يعتنون بما حرمه دينهم، أو أوجبه، أو نحو ذلك؛ ففي أيام الصيام في «باريس» لا ينقطع أكل اللحم في سائر البيوت، إلا ما ندر
أهل المدينة يستهزئون بمن يصومون ويقولون: إن سائر تعبدات الأديان التي لا نعرف حكمتها من البدع والأوهام
 ولا تعظم القسوس في هذه البلاد إلا في الكنائس عند من يذهب إليهم، ولا يسأل عنهم أبدًا، فكأنهم ليسوا إلا أعداء للأنوار والمعارف
 وإعترض «مسيو دساسي» على ذلك لكونه من أرباب الديانة، وعددهم نادر ولا حكم له وكتب عليه ما نصه
 (( قولك أن الفرنساوية ليس لهم دين ألبتة، وإنهم ليسوا إلا بالاسم فيه نظر، نعم إن كثيرًا من الفرنساوية خصوصًا من سكان «باريس» ليسوا نصارى إلا بالاسم فقط لا يعتقدون اعتقادات تدينهم، ولا يتعبدون بعبادات النصرانية، بل هم في أعمالهم لا يتبعون إلا أهواءهم، تشغلهم أمور الدنيا عن ذكر الآخرة، تراهم ما دامت حياتهم لا يهتمون إلا باكتساب الأموال بأي وجه كان، وإذا حضرهم الموت ماتوا كالبهائم، ولكن فيهم أيضًا من يقيم على دين آبائه يؤمن بالله واليوم الآخر، ويعمل الصالحات، وهم طائفة لا تحصى من الرجال والنساء، ومن العوام والخواص. بل ومن المشهورين بفضل العلم والأدب، غير أنهم في ورعهم وتقاهم على مراتب شتى: منهم من يشارك عامة الناس تصرفاتهم، ويحضر معهم في محافل اللذات أعني «السبكتاكل» «والبال» ومجامع الأغاني، ومنهم المتقشفون المعرضون عن كل ما تشتهيه الأنفس، وهؤلاء أقل عددًا، وإن دخلت كنائسنا أيام الأعياد المعظمة ظهر لك صحة قولي))
ومن خصالهم في بلاد «القاثوليقية»: عدم الإذن بزواج رجال الدين على اختلاف مراتبهم ودرجاتهم، وعدم زواجهم يزيدهم فسقًا على فسقهم ، ويعترض الطهطاوي على " كرسي الإعتراف" وعلى قدرة القسيس على غفران الذنوب وأن أكثر من يدخل الكنيسة أو يذهب إلى الاعتراف يكون من النساء والصغار، وهذا موافق لقول بعض شعراء العرب
:
إن من يدخل الكنيسة يومًا   يلق فيها جآذرًا وظباء
والبابا هي قمة المراتب الكنسية يليه الكاردينال ثم «المطران» ثم بعده «الأسقف» ثم «الكاهن أو القس " الخوري"» ثم «نائب الخوري» ثم «الشماس».والبابا لابد أن يكون من الكاردينالات
وعند الفرنساوية أعياد دينية متنقلة: يعني لا تقع في يوم معين كل سنة، بل هي دورية ومرتبة في الغالب على وقوع عيد الفصح
فمن أعيادهم الغريبة «عيد الرفاع» وقد تكلمنا عنه، و عيد ظهور السيد المسيح أوعيد الغِطاس، عيد الدنح أو عيد العماد
 ويسمى عند الفرنسيس: عيد الملوك، وذلك أن كل عائلة تصنع فطيرة عظيمة، وتضع فيها حبة فول في عجينها، ويقسمون الفطير على الندامى، فكل من جاءت حبة الفول في نصيبه فهو الملك، فإن جاءت في نصيب رجل فإنه يسمى باسم الملك، ويخاطب فوق المائدة وتمام الليلة بخطاب الملوك، ثم يختار من النساء امرأة يجعلها الملكة، فتخاطب أيضًا بذلك الخطاب، وإن جاءت الفولة من نصيب امرأة فإنها أيضًا تختار من الحاضرين شخصًا كالزوج لها، وتطلق عليه اسم الملك، فيكون سائر إكرام الليلة للملك والملكة، برسوم خاصة، وقوانين مألوفة، وهذه الكيفية تصنع في سائر البيوت في مدينة «باريس» حتى بيت ملك الفرنسيس
ومن جملة بدع القسيسين أنهم يصنعون في عيد القربان موكبًا ويلبسون فيه حللاً مطرزة، ويدورون المدينة بشيء يسمونه «البونديو» وكلمة «البونديو» مركبة من كلمتين: الأول: «بون» ومعناها: طيب، أو عظيم، والثانية «ديو» ومعناها: الإله، فكأنهم يقولون: إن الإله حاضر في الجحفة "  بقية ماء في حوض " التي بين أيدي القسوس، والمراد عندهم «بالبونديو» عيسى عليه السلام، والفرنساوية يعرفون أن هذه الأمور من باب الهوس الذي يدنس بلادهم، ويزري بعقول أهلها، غاية الأمر أن العائلة السلطانية كانت تعين القسيسين على هذه الأمور، فتمتثل الرعية لذلك مع غاية الحط والتشنيع
وللقسيسين بدع لا تحصى. وأهل باريس يعرفون بطلانها، ويهزءون بها، ولهم أعياد أخر لا يسعها هذا الكتاب كما يقول الطهطاوي
ثم إن لكل إنسان من الفرنساوية عيدًا وهو يوم مولد القديس الموافق له في اسمه فإذا كان إنسان اسمه بولص مثلاً فإن عيده يكون عيد «ماري بولص»، فنرى كل إنسان اسمه بولص«يصنع وليمة ويشهر عيده، وفي عيد الإنسان يهادونه بأنواع الأزهار.»
---------------------
الفصل الثالث عشر من المقالة الثالثة 
تقدم أهل باريس في العلوم والفنون والصنائع، وذكر ترتيبهم، وإيضاح ما يتعلق بذلك
يرى الطهطاوي أن المعارف البشرية قد انتشرت وبلغت أوجها بهذه المدينة، وأن سائر الفنون العلمية التي يظهر أثرها بالتجارب يعرفونها ويتقنونها عندهم  و «الأمور بتمامها، والأعمال بخواتيمها، والصنائع باستدامتها» كما يقول الحكماء
و أغلب العلوم والفنون النظرية معروفة لهم غاية المعرفة، ولكن لهم بعض اعتقادات فلسفية خارجة عن قانون العقل " بالنسبة لغيرهم " كما في علم الهيئة " علم الفلك والأجرام السماوية " مثلاً، فإنهم محققون فيه لمعرفتهم بأسرار الآلات المعروفة من قبل
والمعرفة بأسرار الآلات أقوى معين على الصناعات ولكن لهم في العلوم الحكمية " الفلسفة وعلم النفس واللاهوت" حشوات ضلالية مخالفة لسائر الكتب السماوية، ويقيمون على ذلك أدلة يعسر على الإنسان ردها وسنتعرض لكثير من بدعهم، وننبه عليها

و كتب الفلسفة بأسرها محشوة بكثير من هذه البدع و يجب على من أراد الخوض في لغة الفرنساوية المشتملة على شيء من الفلسفة أن يتمكن من الكتاب والسنة، حتى لا يغتر بذلك، ولا يفتر عن اعتقاده، وإلا ضاع يقينه، وقد قلت
"أي الطهطاوي"جامعًا بين مدح هذه المدينة وذمها:
أيوجد مثل «باريس» ديار  شموس العلم فيها لا تغيب
وليل الكفر ليس له صباح  أما هذا وحقكم عجيب!
و مما يعين الفرنساوية على التقدم في العلوم والفنون سهولة لغتهم وسائر ما يكملها، فإن لغتهم لا تحتاج إلى معالجة كثيرة في تعلمها، فأي إنسان له قابلية وملكة صحيحة يمكنه بعد تعلمها أن يطالع أي كتاب كان؛ حيث إنه لا التباس فيها أصلاً، فهي غير متشابهة، وإذا أراد المعلم أن يدرس كتابًا لا يجب عليه أن يحل ألفاظه أبدًا، فإن الألفاظ مبينة بنفسها
 وبالجملة فلا يحتاج قارئ كتاب أن يطبق ألفاظه على قواعد أخرى برانية من علم آخر، بخلاف اللغة العربية مثلاً، فإن الإنسان الذي يطالع كتابًا من كتبها في علم من العلوم يحتاج أن يطبقه على سائر آلات اللغة، ويدقق في الألفاظ ما أمكن، ويحمل العبارة معاني بعيدة عن ظاهرها
وأما كتب الفرنسيس فلا شيء من ذلك فيها، فليس لكتبها شراح ولا حواش إلا نادرة، وإنما قد يذكرون بعض تعليقات خفيفة تكميلاً للعبارة بتقييد أو نحوه، فالمتون وحدها من أول وهلة كافية في إفهام مدلولها، فإذا شرع الإنسان في مطالعة كتاب في أي علم كان تفرغ لفهم مسائل ذلك العلم وقواعده من غير محاكاة الألفاظ
 فيصرف سائر همته في البحث عن موضوع العلم، وعن مجرد المنطوق والمفهوم، وعن سائر ما يمكن إنتاجه منها، وأما غير ذلك فهو ضياع مثلاً إذا أراد إنسان أن يطالع علم الحساب، فإنه يفهم منه ما يخص الأعداد من غير أن ينظر إلى إعراب العبارات، وإجراء ما اشتملت عليه من الاستعارات، والاعتراض بأن العبارة كانت قابلة لتجنيس وقد خلت عنه، وإن المصنف قدم كذا، ولو أخره كان أولى، وأنه عبر في محل الواو والعكس أحسن، ونحو ذلك
(( ربما أدرك الطهطاوي أن سهولة وبساطة الفرنسية في نظره ترجع الى خلوها من السجع والبديع والمحسنات البلاغية والإستطراد ...الخ وإكتشف أن تلك المحسنات تشكل قيوداً على فهم المواضيع العلمية البحتة كالهندسة والطب أي قيود على العقلية فكان أول كاتب يبدأ بمحاولات التخلص من تلك القيود في الصفحات الأولى من كتابه الأول «تخليص الإبريز»  وربما كانت تجاربه الأولى في تبسيط المعلومات والتي جذبت اليه التلاميذ والكبار في حلقات الأزهر قبل البعثة هي التي سهلت عليه التعامل مع اللغة الفرنسية البسيطة وإنتقلت طريقته في الكتابة الى تلاميذه ))

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق