الأحد، 28 يوليو 2024

 حلقة 79

 عشق البحر للبحر في نص منسوب لرفاعة الطهطاوي ورد في النص الفرنسي من كتاب «افتتاح قناة السويس رحلة الملوك» يقول: «نعم. ها هو خليج السويس العتيق، فضاء من الحصباء، وصحراء مكفهرة ومقفرة، سوف يخضعه البحر لسلطانه، ويطيل سواحلنا. إن عشق هذا البحر للبحر الآخر، هو كعشق اللآلئ لصدور الحسناوات، هنالك ستذهب سفننا تتنزه نوهة الخُطّاب، ويهوي إليها من نحبهم من البشر».
 تقول إيمان عبد المنعم عامر، إن مصر كانت محور تاريخ مصر السياسي والاقتصادي والاجتماعي منذ طرحت كأفكار ومشروعات، فقد كان حلم الوصول إلى الشرق هو الذي دفع بالموجات الاستعمارية خارج القارة الأوروبية. كان برزخ السويس موقعاً عبقرياً جعل من مصر مطمعاً استعمارياً، وبأقل قدر من الضمير الإنساني مضى «ديليسبس» ومعاونوه ومساعدوه من مختلف الجنسيات الأوروبية في تنفيذ هذا المشروع على وجه لا يمكن أن يتصور الإنسان أبشع، ولا أشنع، ولا أوجع منه
--------------------
قناة السويس التي يعود تاريخها إلى فترة الاحتلال الفارسى لمصر عندما أعاد الملك «دارا الأول» عام 518 ق.م حفرها لتصل النيل بالبحر الأحمر، وكان قد أنشأها «نخاو الأول» 610 ـ 595 ق.م لتبحر عبرها اثنتان وثلاثون سفينة محملة بخير ما تجود به أرض مصر ووجهتها نحو بلاد فارس عن طريق بحر العرب..
ويكرّر التاريخ نفسه بعد أكثر من ألف عام عندما أعاد عمرو بن العاص حفر القناة نفسها ليتدفق عبرها القمح المصرى وغيره من الأغذية والمؤن إلي مكة والمدينة..
 ويذكر التاريخ رسالة آثمة من أرسطو إلى تلميذه الاسكندر الأكبر بعد فتوحاته في الشرق ينصحه فيها بأن يعامل اليونانيين كقائد، وأن يعامل الشرقيين معاملة السيد لأنهم بطبيعتهم قد اعتادوا السخرة ولا يتذمرون من الطاغية..
 و..من الإسكندر لفردينان ديليسبس يا قلبي لا تحزن،
فقد سار الأخير علي هدي النصيحة التاريخية الجائرة لتكتب جريدة «ستاندارد» البريطانية في19 ابريل1861 مقالا جاء فيه:
 «علمنا من مصدر موثوق به أن عمال قناة السويس يقادون سيرا علي الأقدام من بلادهم في كافة أنحاء مصر إلي بورسعيد، وقد رُبط بعضهم إلي بعض كالجمال أو مثل قطعان العبيد في أفريقيا عندما يسوقهم تجار الرقيق إلي السفن المنتظرة لتوصيل طرود البشرية».. وترد جريدة شركة قناة السويس الفرنسية غير مستنكرة للنقد أو عابئة له بقولها:
 «لا بأس في أن العمال الذين تجمعهم الشركة يذهبون إلي ساحات الحفر سيرًا علي الأقدام، فهم أبناء بلد لا يحظي بطرق زراعية كثيرة، أو بخطوط حديدية منتشرة، وقطع المسافات سيرا علي الأقدام الحافية أمر مألوف للغاية في مصر»..
 و..تظل الأوامر تخرج من القصر بشحن العمال إلي مراكز التجميع في الصعيد والوجه البحري، ومن هناك إلي مراكز التجميع في الزقازيق، حيث يبدأ ربطهم بعضهم البعض بالحبال وسوقهم سيرًا علي الأقدام تحت إرهاب السياط والسلاح إلي ساحات الحفر ليحصل كل منهم علي أجر يومي قرشان ونصف القرش في اليوم ــ كما تقول الشركة ــ وإن كان ما يحصله حقيقة وفى الواقع لا يتجاوز نصف القرش يدفع منه ثمن طعامه بعد مرور المرتب علي مطامع المقاولين وسماسرة الأنفار..
وعندما تفوح رائحة السخرة في بر مصر، توعز الشركة إلي رؤساء العمال الموالين لها بنفوذ الرشوة والإرهاب بتدوين العرائض النافية للسخرة في معاملة فلاحي الحفر،
ومنها عريضة وقعها 27 منهم كانت ضمن الوثائق التي جمعها «رينيه قطاوي بك» مدير عام شركة كوم أمبو تقول: «نشهد أن العمال قد جاءوا للعمل بمحض إرادتهم ورغبتهم، ومقادير الماء متوافرة لديهم بل تزيد علي حاجتهم، ويقدم إليهم كل يوم ما يحتاجونه من أطعمة وخبز يخصم ثمنها الزهيد للغاية من الأجور وتدفع لهم بانتظام، والعمل قائم علي أساس الرغبة والاختيار لا علي الرهبة أو الإجبار، وأن مستخدمي الشركة الأجلاء لا يوجهون للعمال أي إهانة وأنه لم يقع حادث وفاة واحدة أو ظهور أى مرض على طول ساحات الحفر»..
حلقة 80
وتروي دماء وعرق المصريين أرض قناة السويس قبل أن ترويها مياه البحرين، وترتفع الفؤوس وتهبط بآلية البشر المسير ليتردد غناء القهر:
روح يا زمان روح وخلينا بغلابتنا  احنا السبوعة وجت الأيام غلبتنا
وتؤكد شركة قناة السويس أن الدليل علي حُسن معاملة الفلاحين أنهم يغنون وسط العمل، ولا يدركون أنها أنات الألم التي تشد الأزر، وترسخ الصبر، وتحشد فتات القوة و..هيلا هوب هيلة!!..
وكان عدد العمال المسخرين في حفر القناة 20 ألفا يتغيرون كل شهر، وقد ترتب علي ذلك تأثر الزراعة في بر مصر، إذ بينما يكون20 ألف فلاح منكفئين في ساحات الحفر يكون هناك20 ألفا آخرين في طريق عودتهم إلي قراهم بعد انتهاء سخرة شهر الحفر، بينما يكون هناك 20 ألفا ثالثة تشد الرحال إلي محفر السخرة في السويس ابتداء من الشهر المقبل،
 أي أن هناك شللا تامًا في قطاع 60 ألف فلاح مصري بعيدون عن أراضيهم، وقد حاولت الحكومة المصرية إرسال خمسة آلاف جندي قاربوا انتهاء خدمتهم العسكرية للمشاركة في حفر القناة إلا أنهم رفضوا المهمة اللاإنسانية بمجرد مشاهدتهم لأرض الواقع المرير، وعجز الضباط عن السيطرة عليهم عندما تجمعوا ساخطين للعودة إلي بلادهم بعد وقوع العديد من المصادمات مع المهندسين الفرنسيين المشرفين علي المشروع
 ولولا دهاء ديليسبس وأوامره بألا يعاقب أحد من الجنود لانتشر خبر هروب العمال من القناة، ولذا اكتفي بعدها بالعمالة العاجزة عن إبداء تذمرها من قسوة السياط، والتي كان بعضها يتمكن من الهروب تحت جنح الظلام أو السقوط إعياء جوعًا أو عطشا ومرضًا لتنزف مصر أقوي شبابها ورجالها من سن 16 إلي الـ40 الذين يدفنون من قبل أن يلفظوا أنفاسهم الأخيرة حتي لا تنتشر الأوبئة وتموت أعداد أكثر لم تزل الأرض في حاجة إلي ضربات معاولهم..
ويكتب البريطاني «بيرس بادجر» في كتابه عن مصر أنه التقي بآلاف العمال المصريين، وكان حريصًا علي سؤالهم فيما إذا كانوا قد قدموا للعمل للقناة بمحض إرادتهم فكانت جميع الإجابات كلمة سجلتها كل الأفواه وكتبها الإنجليزي بالحروف اللاتينية بأن الأمر كله قد تم بـ«الزور
Bizzor»!!..
واستمر حفر قناة السويس.. الملحمة التي رأي فيها المؤرخ جمال حمدان أمرًا جللا: «جاءت القناة كأكبر عامل اختزال
Catalyst في جغرافيا النقل الكوكبية، فقد أعادت توجيه القارات، ورجّت القيَّم الچيوماتيكية، فبعملية جراحية جغرافية، صغيرة نسبيًا، اختزلت قارة برمتها هي أفريقيا، وأسرت طريق الرأس الصالح وأعادت وضع الشرق العربي ومصر في قلب الدنيا وفي بؤرة الخريطة، ومن المحتمل أن عملا من أعمال الإنسان لم يؤثر علي علاقة الأمم بصورة أكثر منها عمقًا، ومن الصعب تصور مثل هذا الإنجاز مرة أخري في حدود القدرة البشرية في تمكنه من تغيير أوضاع الطبيعة.
. ومن خطورة ونتائج القناة أنها منذ شقت، وبالأخص منذ حلّ البخار محل الشراع الذي كانت تعاكسه رياح البحر الأحمر، أصبحت شريان المواصلات العالمية وعنق الزجاجة في الملاحة، وتحولت إلي قِبلة كأنما الدنيا كلها علي ميعاد فيها.. باختصار أصبحت مركز الثقل في حركة العالم، والقارات معلقة إليها، وأبسط معني أنها جددت شباب موقع مصر الجغرافي وأعادت إلي الجسم المريض دورة الدم والحياة.. لقد أتت القناة هدية الموقع إلي مصر، وهدية مصر إلي العالم.. فكم أعطت القناة للعالم.. ولكن كم أعطي العالم لمصر؟!!.
وقد يبدو طريفًا أن مشروع قناة السويس قد بدأ بسبب سروال محمد علي الألباني الفضفاض، فقد كان في عام1802 مجرد ضابط صغير بالجيش التركي دُعى إلي وليمة فاخرة في دار القنصلية الفرنسية أقامها «ماتيو ديليسبس» ــ والد فردينان ــ أول قنصل عام لفرنسا في مصر، وبعد انصراف المدعوين ظهر غياب عدد كبير من الملاعق والشوك والسكاكين الفضية التابعة للقنصلية، فحامت الشكوك علي الفور حول محمد علي وبخاصة لأن سرواله الواسع يساعد علي إخفاء المسروقات بين طياته، فأمر «ماتيو» بإجراء تحقيق فوري أظهر إدانة شخص آخر غير محمد علي
 ومن بعدها ظل القنصل يُظهر التوقير المبالغ فيه له أمام الجميع، ليزيل من نفسه الإهانة فما كان من محمد علي إلا أن يبادله بدوره تعظيما بتعظيم مما أنشأ رابطة وثيقة بينهما ارتفعت إلي مصاف الصداقة بين مصر وفرنسا بعد تولي محمد علي حكم البلاد، لكنه ظل يرفض الفكرة الفرنسية بمشروع قناة السويس بحجة ضرورة إشراف الحكومة المصرية علي تنفيذه وتمويله كلية كي تخلص القناة لوطنها..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق