حلقة 39 من المنهج الوافي في رحلة الطهطاوي
شاهدنا مدينة «نمور Nemours بعد سير أربع ساعات من «فنتنبلو» وبعدها مررنا
على مدينة «كونة أو كوسن كورس سور لوار Cosne-Cours-sur-Loireعلى شط نهر «ألورة "اللوار" Loire »
وهي مدينة تصنع فيها الهلاليب للمراكب الملكية
ثم مدينة «مولينزMoulins « وبها كثير من أولاد العرب الذين صحبوا
الفرنساوية من مصر إلى فرنسا
ثم وصلت البعثة الى مدينة «رونتة روآن: »
Roanne وهي شمال غرب ليون بنحو 90 كم على شط اللوار ثم
مدينة ليون Lyon » « وبها ديوان مشورة
«للفبريقات: ومشورة للزراعة، ومكتبة ومخزن آلات طبيعية وهندسة، وبها قنطرة ظريفة على
نهر «لوار» ورصيف مشهور، وهي ساحل لمركز تجارات «ليون» وغيرها من سائر أنواع
البضائع، وبأراضيها مقاطع الرخام.
وهذه المدينة غير مدينة «روان» البعيدة عن باريس جهة الشمال بنحو 100كم، والتي يمر
بها السين، والتي هي من إقليم «نورمنديا»
وبعد مدينة ليون كان إقليم دُردُنيَة « La Ville dOrgon أورغون»
وما زلنا نمر ببلاد حتى وصلت البعثة إلى
مرسيليا ومنها في سفينة تجارية إلى الإسكندرية
ذكر خلاصة هذه الرحلة
وما دققت فيه النظر وأمعنت فيه الفكر، فأقول: ظهر لي بعد التأمل في آداب
الفرنساوية وأحوالهم السياسية أنهم أقرب شبهًا بالعرب منهم للترك، ولغيرهم من
الأجناس
وأقوى مظنة القرب بأمور، كالعرض والحرية
والافتخار، ويسمون العرض شرفًا، ويقسمون به عند المهمات، وإذا عاهدوا عاهدوا عليه،
ووفوا بعهودهم، ولا شك أن العرض عنه العرب العرباء أهم صفات الإنسان، كما تدل على
ذلك أشعارهم، وتبرهن عليه آثارهم ويقول الشاعر(
الحكم بن عبدل الأسدي أو الحكم بن عبدل الغاضري هو الحكم بن عبدل بن جبلة
بن عمرو بن ثعلبة بن عقال من بني غاضرة بن مالك بن ثعلبة بن دودان بن أسد بن خزيمة
بن مدركة قصيدة له منها )
وإني لحلو للصديق، وإنني لمر لذي الأضغان
أبدى له بغضي
وإنني لأستغني فما أبطر الغنى وأبذل ميسورًا لمن يبتغي قرضي
وهتك العرض: هو ما يعبر به عندهم بالسبة
والعار ( قال الشاعر السموأل بن غريض بن عادياء بن رفاعة بن الحارث الأزدي في
لاميته المشهورة )
ذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه فكـل رداء يرتديه جميل
وإن هو لم يحمل على النفس ضيمها فليس إلى حسن الثناء سبيل
تُعَيِّرُنا أنّا قليلٌ عديدُنا فقلتُ لها إن الكرامَ قليلُ
وما قلَّ مَنْ كانت بقاياه مثلنا شبابٌ تسامى للعلا وكهولُ
وما ضرنا أنا قليل وجارنا عزيز وجار الأكثرين ذليل
وأنا لقوم لا نرى القتل سبة اذا ما رأته عامر وسلول
صفونا فلم نكدر وأخلص سرنا إناث اطابت حملنا وفحول
وننكر إن شئنا على الناس قولهم ولا ينكرون
القول حين نقول
إذا سيد منّا خلا قام سيد قؤول لما قال الكرام فعول
وما اُخمدت نار لنا دون طارق ولا ذمّنا في النازلين نزيل
سلي إن جهلت الناس عنّا وعنهم فليس سواء عالم وجهول
ونمضي مع الطهطاوي
ولا يظن بهم أنهم لعدم غيرتهم على نسائهم لا أعرض لهم في ذلك؛ حيث إن العرض يظهر
في هذا المعنى أكثر من غيره؛ لأنهم وإن فقدوا الغيرة، لكنهم إن علموا عليهن شيئًا
كانوا شر الناس عليهن، وعلى أنفسهم، وعلى من خانهم في نسائهم، غاية الأمر أنهم
يخطئون في تسليم القياد للنساء، وإن كانت المحصنات لا يخشى عليهن شيء كما قال
علقمة الفحل الشاعرالجاهلي
طَحا بِكَ قَلبٌ في الحِسانِ طَروبُ بُعَيدَ الشَبابِ عَصرَ حانَ مَشيبُ
تُكَّلِفُني لَيلى وَقَد شَطَّ
وَلْيُها وَعادَت عَوادٍ بَينَنا
وَخُطوبُ
مُنَعَّمَةٌ لا يُستَطاعُ كَلامُها عَلى بابِها مِن أَن تُزارَ رَقيبُ
إِذا غابَ عَنها البَعلُ لَم تُفشِ
سِرَّهُ وَتُرضي إِيابَ البَعلِ حينَ
يَؤوبُ
وفي القصيدة أيضا
فَإِن تَسأَلوني بِالنِساءِ فَإِنَّني
بَصيرٌ بِأَدواءِ النِساءِ طَبيبُ
إِذا شابَ رَأسُ المَرءِ أَو قَلَّ
مالُهُ فَلَيسَ لَهُ مِن وُدِّهِنَّ
نَصيبُ
يردن ثراء المال حين علمنه وشرخ الشباب
عندهن عجيب
--
قال الزمخشري، عند قوله تعالى (
وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ) ما كان العزيز إلا حليمًا، وقيل: إنه كان قليل
الغيرة
قال الشيخ أثير الدين أبو حيان، في تفسير
هذه الآية الكريمة: وتربة مصر اقتضت هذا يعني قلة الغيرة
وأين هذا مما جرى لبعض ملوك بلادنا، وهو
أنه كان مع ندمائه الخصيصين به في مجلس أنس وجارية تغني وراء الستارة فاستعاد بعض
جلسائه بيتين من الجارية، وكانت قد غنت بهما، فما لبث أن جيء برأس الجارية مقطوعًا
في طشت، وقال له الملك استعد البيتين من هذا الرأس، فسقط مغشيًا عليه، ومرض مدة
حياة ذلك الملك!
أقول: وأين غيرة هذا الملك من غيرة عبد
المحسن الصوري على محبوبه، حيث قال:
تعقلته سكران من خمرة الصبا به غفلة عن لوعتي ونحيبي
وشاركني في حبه كل ماجد يشاركني في مهجتي بنصيب
فلا تلزموني غيرة ما ألفتها فإن حبيبي من أحب حبيبي
وبالجملة فسائر الأمم تتشكى من النساء ولو العرب، قال زهير بن أبي سلمى
لَعَمرُكَ وَالخُطوبُ مُغَيِّراتٌ وَفي
طولِ المُعاشَرَةِ التَقالي
لَقَد بالَيتُ مَظعَنَ أُمِّ أَوفى وَلَكِن أُمُّ أَوفى لا تُبالي
إن وقوع اللخبطة (لعله يريد الاختلاط) بالنسبة لعفة النساء لا يأتي من كشفهن أو سترهن، بل التربية الجيدة والحسيسة والتعود على محبة واحد دون غيره، وعدم التشريك في المحبة والالتئام بين الزوجين
وقد جرب في بلاد فرنسا أن العفة تستولي على قلوب النساء المنسوبات إلى الرتبة الوسطى من الناس دون نساء الأعيان والرعاع
فنساء هاتين المرتبتين يقع عندهم الشبهة كثيرًا، ويتهمون في الغالب، فكثيرًا ما كانت تتهم الفرنساوية نساء العائلة الملكية المسماة «البربون»، على أن مما يقوي كلامهم ما وقع لزوجة ابن ملك فرنسا المعزول التي هي أم «الدوك دوبردو» الذي خلع عليه جده المملكة بعد عزله، ولم يقبله الفرنساوية، وقالوا إن هذا الولد ابن زنا، فإن أمه ولدت ولدًا آخر من الزنا، وادعت أنها تزوجت سرًا، فانكسر بذلك ناموسها، وبعد أن كانت تطلب مملكة فرنسا لابنها الأول، وكانت آخذة في أسباب توليته، وكان يخشى منها وقوع شيء في المملكة - سقطت من الأعين - وبعد أن وقعت في يد الفرنساوية، وكان يظن هلاكها، تركوا سبيلها قائلين: إنها صارت مهملة ورجعت إلى أهلها بولدها الأخير
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق