الأحد، 28 يوليو 2024

 حلقة 10

ونستكمل الحديث عن دوساسي

وفي كتابه: تخليص الإبريز في تلخيص باريز، كتب رفاعة الطهطاوي نفسه ما كان من رعاية جومار ودي ساسي وتوجيههم له، وأورد نصوص بعض الرسائل التي أرسلوها له، وكان دي ساسي هو أستاذه المباشر في فنون الترجمة، وكان كما وصفه:

 (( وبالجملة فمعرفته خصوصًا في اللغة العربية مشهورة، مع أنه لا يمكنه أن يتكلم بالعربي إلا بغاية الصعوبة، وقد رأيت له في بعض كتبه توقيفات عظيمة، وإيرادات جليلة، ومناقضات قوية، وله اطلاع عظيم على الكتب العلمية المؤلفة في سائر اللغات، وسبب ذلك كله تمكنه من لغته بالكلية، ثم تفرغه بعد ذلك لمعرفة اللغات))

والمستشرق دي ساسي Antoine Isaac Silvestre de Sacy ، أستاذ رفاعة الطهطاوي ومرشده، ماسوني فهاك موجز سيرته في الماسونية من دراسة عنه، لتييري زاركوني  Thierry Zarcone، وهو أستاذ التاريخ في معهد الدراسات الاجتماعية المتقدمة Ecole Des Hautes Etudes En Sciences Sociales، في جامعة السوربون، وباحث متخصص فى

تاريخ الماسونية والصوفية، ودراسته عن سلفستر دي ساسي حلقة في سلسلة دراساته التي عنوانها: الاستشراق في الماسونية Orientalism In Freemasonry، وقد نشرها بالإنجليزية في المجلد الثاني لسنة 2014م من مجلة: الطقوس والسرية والمجتمع المدني Civil Society And,Ritual Secreity   ، وهي مجلة ضخمة نصف سنوية يصدرها متحف الماسونية التابع للشرق الأعظم الفرنسي Musée De La Franc Maconnerie، ويرأس هيئة تحريرها بيير مولييه Pierre Mollier مدير المتحف.

يقول زاركوني في بداية دراسته إن دي ساسي هو أبرز أعلام الاستشراق في فرنسا وربما في أوروبا كلها، وأستاذ كل من تلاه من المستشرقين في الدراسات الخاصة بالديانة والثقافة الإسلامية، وبالإضافة إلى الفرنسية والإنجليزية كان يجيد عدة لغات شرقية، منها العربية والعبرية والسريانية، وقبل الثورة في فرنسا كان مستشاراً مفوضآ للملك لويس السادس عشر، وبعد الثورة أصبح أستاذا في معهد اللغات الشرقية Vivantes Ecole Des Langues Orientales  الذي أنشاته حكومة الثورة 1795م وظل أستاذا به أربعين سنة حتى موته وإبان ذلك تم تعيينه أستاذا للغة الفارسية في الكوليج دي فرانس France College De عام 1806م

 ومنحه الإمبراطور نابليون لقب بارون في 1814م  وفي سنة 1822م اشترك في تأسيس الجمعية الآسيوية Sociate Asiatique، وكان أول رئيس لها في 1822م صار أمين قسم المخطوطات الشرقية في المكتبة الملكية Bbliotheque Royale في 1833م ثم رئيس أكاديمية النقوش والآداب القديمة Et Belles Lettres Academie Des Inscriptions.

ويقول زاركوني إن ثمة وجها آخر لسلفستر دي ساسي، وهو أنه كان ماسونياً عندما كان في الثلاثين من عمره، وحتى موته عام 1838م وتفاصيل علاقته بالماسونية موثقة في مضابطها ومحاضرها، وزاركوني ينقل عن هذه الوثائق الأصلية مباشرة، مع بيان تفاصيل كل وثيقة في هوامش دراسته الطويلة.
 وحسب أرشيف المحفل الاسكتلندي الأم في فرنسا
France Mere Loge EcoSsaise De، فإن تكريس سلفستر دي ساسي، كان في محفل العقد الاجتماعي في باريس Contrat Social Loge عام 1788م  

وقد تأسس المحفل سنة 1879م و أغلق فى  عهد  الإرهاب والرعب سنة 1792م  

عادت المحافل الماسونية في عهد نابليون قنصل فرنسا عام 1800م وتكون المحفل الاسكتلندي الأم، وورث محفل العقد الاجتماعي، ونص في لائحته التأسيسية على أن جميع من كانوا أعضاء في محفل العقد الاجتماعي لهم الحق في عضويته تلقائية ودون شروط ولا تكريس، ويقول زاركوني إن سلفستر دي ساسي في محاضر اجتماعات المحفل الاسكتلندي منذ 1809م، ولسنوات عديدة بعدها، واسمه ودرجته ولقبه في المحاضر:  الفارس سلفستر دي ساسي عضو المعهد
 
Sylvestre De Sacy,.Chevalier, Membre De L'Institut  Le

ويقول زاركوني إن المحفل الاسكتلندي الأم في باريس، وهو تابع للشرق الأعظم الفرنسي، كان يضم مجموعة كبيرة من صفوة المجتمع الفرنسي، في السياسة والاقتصاد والفكر والثقافة

وفي إحدى الاجتماعات ألقى الأستاذ الأعظم أنطوان توري Antoine Thory خطبة للمحفل في هؤلاء الصفوة، قال فيها:
لقد اتبعتم النور ومنحتموه
Affiliated Or Given Light لعدد هائل من الفنانين والباحثين ورجال الإدارة والتجار النابهين والأطباء الماهرين والقضاة المستنيرين، وأنتم جميعا بحضوركم إلى هنا وجلبكم ما تملكونه من معارف عصركم، قد أضفتم إلى الأنوار التي تسطع في كل مكان من هذا المحفل"
والمحفل الاسكتلندي الأم به مكتبة هائلة، في جميع أنواع المعارف، وكان من تقاليد المحفل أن يضع كل عضو من أعضائه أصول أعماله أو نسخة منها في مكتبته، ويقول زاركوني إنه توجد في مكتبة المحفل النسخة الخطية من كتاب سلفستر دي ساسي: مذكرات عن تاريخ فارس القديم
Mémoires Sur Les Antiquités De Perse

ويقول زاركوني إن ثلاثة من تلاميذ دي ساسي في معهد اللغات الشرقية صاروا من الماسون وانضموا معه إلى المحفل الاسكتلندي الأم، وأحدهم هو بيير أميدي جوبير Pierre Amédée Jaubert كان واحدًا من أبرز تلاميذ سيلفستر دي ساسي، والذي ألقى خطابات جنازته في عام 1838م
عمل جوبير كمترجم فوري لنابليون بونابرت خلال الحملة الفرنسية وكان عضواً بالمعهد المصري للعلوم والفنون
والثلاثة كانوا أعضاء في اللجنة العلمية المصاحبة لحملة الماسون " الحملة الفرنسية" في فرنسا على مصر، وأعضاء في المجمع العلمي الذي أنشأه نابليون بها، واشتركوا في وضع موسوعة: وصف مصر!

وقد أثمرت نفثات الماسونيان، جومار ودي ساسي، في الطهطاوي، وظهرت بصماتهما عليه، وكان عند حسن ظنهما، وفعل ما توسمه جومار في تقريره عنه وهو ما زال تلميذاً.

فالطهطاوي كما أخبرناك صاحب بصمة عميقة في صناعة " الدولة " وأسهم في التقدم به خطوة كبرى، إذ كان هو الذي أحدث أول خرق في الشريعة، و وضع في يد الدولة الماسونية التي أسسها محمد على أداة إزاحتها، بترجمته لمجموعة القوانين المدنية الفرنسية أو قانون نابليون، بناءا على أمر من الخديو إسماعيل، الذي طبع هذه القوانين سنة 1866م، وأمر بالعمل بها والخديو إسماعيل نفسه من أبناء البعثات إلى فرنسا " بعثة الأنجال"

الطهطاوي نفسه يقول في مقدمته لترجمة قوانين نابليون أنه ترجمها بأمر الخديو لتأخذ منها مصر ما يناسبها، مثلما فعلت غيرها من الأمم

"هذا تعريب مجموعة القوانين الفرنساوية التي سمح الدهر بجمعها وتدوينها بهمة فخر ملوك أوروبا نابليون الأول إمبراطور فرنسا، لإجراء العمل عليها في المملكة الفرنساوية، فاشتهرت في ممالك أوروبا بين الدول والملل، واقتبسوا منها من الأحكام والقوانين ما جرى عليه دستور العمل، فأخذت كل مملكة منها ما يناسب سياستها، ويلائم علاقاتها مع أهالي أوروبا بقدر احتياجها وممارستها، فبهذا صدر الأمر العالي الخديوي بتعريبها"

واللجنة التي شكلها الإمبراطور الماسوني نابليون لوضع هذه القوانين وصياغتها، عهد بتكوينها ووضع على رأسها مستشاره ويده اليمنى جان جاك دي كامباسرس  Jean Jacques Régis de Cambacérèsالذي هو رأس الماسون في فرنسا والأستاذ الأعظم للشرق الأعظم الفرنسي

 وما فعله الطهطاوي هو أنه ترجم القوانين التي وضعها الماسون في فرنسا، بأمر من إمبراطورها نابليون الماسوني، لكي يزيح بها الخديو إسماعيل الماسوني الشريعة من مصرويحلها محلها، بالتعاون مع المحافل الماسونية بها
كان  جورجي زيدان  ماسونيا  ووضع كتابه" تاريخ الماسونية العام"

أما كتاب رفاعة الطهطاوي الشهير: تخليص الإبريز في تلخيص باريس، الذي وصف فيه ما شاهده وأعجبه في فرنسا، من علوم وآداب وفنون وأفكار وأخلاق وعادات وعلاقات، فيغنيك عن أن نعرفك بفحواه أن تعيد قراءة قطعة الإنشاء التي كتبها التلميذ محمد مظهر عما أعجبه في فرنسا، وكتاب الطهطاوي ليس سوى نسخة مكبرة ومفصلة منها، وسنقف بك عنده وقفات قصيرة.

عرض الطهطاوي كتابه على المستشرق الماسوني سلفستر دي ساسي، فكان أول من قرأه، وأرسل رسالة إلى الطهطاوي بالعربية يخبره بإعجابه بالكتاب، ويقول له فيها: إلى حبيبنا الشيخ رفاعة الطهطاوي، حفظه الله وأبقاه، أما بعدك فإنه سيصلك مع هذا ما طلبته منا من الشهادة بأننا قرأنا الكتاب المشتمل على حوادث سفرك، وكل ما أمعنت فيه النظر من أخلاق الفرنساوية وعوائدهم وسياساتهم وقواعد دينهم وعلومهم وآدابهم وجدناه مليحة مفيدة يروق الناظر فيه، ويعجب من وقف عليه، ولا بأس أن تعرض خط يدنا على مسيو جومار، وإن شاء الله يحصل لك بمصنفك هذا حظوة عند حضرة سعادة الباشا، وينعم

عليك بما أنت أهله، ودمت على أحسن حال، محبك الداعي: سلوستري دساسي الباريزي"

ثم أرسل دي ساسي رسالة أخرى إلى الماسوني جومار المشرف على البعثة، يقول له:

" إنه يظهر لي أن صناعة ترتيبه عظيمة، وأن منه يفهم إخوانه من أهل بلاده فهما صحيحة عوائدنا وأمورنا الدينية والسياسية والعلمية ... وبالجملة فقد بان لي أن مسيو رفاعة أحسن صرف زمنه مدة إقامته في فرنسا، وأنه اكتسب فيها معارف عظيمة، وتمكن منها كل التمكن، حتى تأهل لأن يكون نافعة في بلاده، وقد شهدت له بذلك عن طيب نفس،وله عندي منزلة عظيمة، ومحبة جسيمة، البارون سلوستري دساسي، باريس في شهر فبريه سنة 1831م"

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق