الحلقة 28
غيبوبة الحياة بالبرودةاعلم أن شدة البرد قد تستحكم بأعمالها في الإنسان، فتجمد الأعضاء، وتحبس جريان الدم، وربما مات بها الإنسان، ودواؤها مخوف العاقبة جدًا وإن كان لا ألم به أبدًا، فمباديها هو الرعشة التي تكاد تصرع الإنسان، وصلابة الجسم، وانحباس الدم، وخدر المفاصل، وذهاب الإحساس، والتذاذ البدن بالنوم، وانقياده إليه ولو بالقهر، وانقطاع حركات الحياة على التدريج، وعاقبته خروج المبتلى به من حيز الأحياء إلى حيز الأموات، وفي الحقيقة حركات الحياة ليست إلا متوقفة
فعليك أن تسرع في معالجته بدواء؛ سواء ذهبت أمارات الحياة بالكلية، أو بقي منها شيء، واعلم أن بعض الناس توهم أن معالجة إفاقته تكون بالحرارة، وهذا وهم فاسد، لإضرار الحرارة بكثير من الناس
ولكن معالجته هي أن تلف أولاً بدنه في ملحفة من صوف، وتحمله إلى أقرب ما يرتاح فيه من الأماكن، وتخلع ثيابه وتضعه في فرش غير محمي،
إذا كان عندك ثلج فدلك البدن مع رفق بشيء من ذلك، مارًا من القلب إلى المفاصل، ثم بعد لحظات دلكه بدل الثلج بخرقة مسقية بماء بارد، وبعده بماء فاتر، ثم بماء مسخن ورش على وجهه شيئًا من هذه المياه
لو تعذر الثلج فضعه في حمام فيه ماء بئر بارد، وبعد نحو ثلاث دقائق أفرغ عليه قليلاً من الماء المسخن، وهلم جرا، فأفرغ عليه كل ثلاث دقائق، حتى تذهب برودة الماء على التدريج، ويصير فاترًا معتدلاً، واعمل جميع ذلك نحو ثلاثة أرباع ساعة فقط
فإن استشعرت برجوع حركة نبض المريض، فلك أن تزيد حرارة الحمام؛ حتى يصير في درجة سخونة الحمام المعتاد، وما دام المريض في الحمام فرش على وجهه يسيرًا من ماء بارد بعد تدليكه بخرقة رقيقة،
الهواء في صدره بواسطة أنبوبة أو منفاخ، كما سبق في الغريق،
أعطه سفوفًا حبات من الملح المعتاد، والعقه لعقتين ماء باردًا مخلوطًا بقطرات من ماء الملكة،
إذا بقي بالمريض الخدر، فاسقه قليلاً من ماء ممزوج بخل وإن كان نومه به سباتًا فاحقنه بحقنة حادة، وهي ما تقدمت في شأن الغريق، ومن سوء الخطأ توهم أن استعمال الخمور والمسكرات القوية، يمكن أن يتدارك به إبعاد هذا الداء، مع أن الأمر بعكس ذلك، وهو أن كثرة الأشربة تحبس جريان الدم، فمن ينهمك على تعاطيها فهو أشد تأثرًا من غيره بآفات البرودة
غيبوبة الحياة بدخان الفحم
كل من يمكث في غرفة مغلقة موقد بها فحم فقد ألقى نفسه في مهلكة، فمبدؤها يحصل للإنسان شدة وجع الرأس، وبعد ذلك يعتريه تعسُّر النفس. ثم يقع في ذبول، كحالة الموتى، فإن عولج فذاك، وإلا هلك.
ومعالجته هي أن تسرع إلى تعريضه في الهواء وتتجرده من أنوابه، وتنيمه على ظهره، وتسقيه ماء ممزوجًا بخل وترش من هذا الماء على وجهه وصدره، وتبل خرقة من ذلك الماء وتدلك بدنه بها، وتمسح وجهه ثم تعيد ذلك عدة مرات، وتقرب نحو مشامه عود كبريت مشتعلاً، أو غيره من حاد الرائحة، وتغمزه في باطن أنفه بطرف ريشه، وتحقنه مرتين: الأولى بماء ممزوج بخل والثانية بماء ملح، فإن بقي بعد ذلك على حالته فدلك فقار ظهره بممسحة من عرف حيوان، والطخ شيئًا من معجون الخردل على بطن رجليه، وأدخل الهواء في صدره بأن تدخل في إحدى طاقتي أنفه فم منفاخ وليس في الغالب يُفيق المريض، فإن ساعدتك المقادير على إفاقته وظهر شيء من أمارات الحياة فضعه في فرش عظيم التسخين، في غرفة بها الهواء وألعقه شيئًا من خير الأشربة.
معالجة الحرق:
أول ما يحترق عضو الإنسان فليغمس العضو في أبرد ما يمكن من الماء، وإن تعذر غمسه في الماء، فرشه دائمًا بإسفنجة مملوءة منه، وكلما تسخن الماء المستعمل في ذلك الغسل فجدده، وواظب على ذلك ساعات، وافتح ما ينتفخ من الدمامل بطرف إبرة واحذر أن تفشخها أو تسلخ البشرة، ثم الطخ على ذلك العضو المرهم الملصوق على بعض خرقة رقيقة بورق اللازوق ؟؟؟ ومحل هذا كله ما لم يمض نصف ساعة قبل غسل العضو المحترق في ماء بارد، وإلا فهذا الدواء يكون مضرًا، بل في هذه الحالة لا بد أن تكتفي باستعمال المرهم الذي تنوب عنه الزبدة الطرية، ولو رأيت الحرق امتد على العضو بتمامه فعليك بالحكيم لتستعين به على ذلك
في الجدري والتخلص من مجيئه بتلقيح البقري
الجدري مرض إما قاتلاً أو مشوهًا للوجه عند سائر الناس، وربما أذهب البصر وأورث أسقامًا لا تنقضي إلا بإنقضاء الأجل
وهناك طريقة لتداركه قبل أوانه مجربة فمن مرض بالجدري مع وجودها فهو من سوء تفريط والديه وإهمالهما، فعلى أبي الإنسان وأمه المبادرة لذلك، فإذا بلغ سن المولود ستة أسابيع إلى ثمانية وجب طلب الحكيم ليخرج سم الجدري بالتلقيح ولا عذر لهما إن أهملا في ذلك، لقدرتهما على مداواة ولدهما، فلو تركاه حتى أصيب بالجدري فقد فات أوان استعمال تلقيح البقري، فيندمان حيث لا ينفع الندم وفي بعض الممالك تلقيح البقري للأطفال معين على بيت المال، فلا كلفه فيه خصوصًا على الفقراء، فعلى أهل هذه المملكة أن يقبلوا عليه في الحال، ولا يتأخروا إلى غد، فربما في اليوم القابل تحرك سم الجدري، ولا يغتر بقول من يزعم أنه غير مثمر شيئًا، فصحيح التجربة أوضح فائدة استعماله
ومن استعمله لطفل فأصيب الطفل بعد ذلك بالجدري؛ فذلك لفقد شروط: كان التلقيح كان غير محكم الوضع، والحبات التي أخذت كانت غير تامة، فإذا استعملته في المولود فاطلع الحكيم على حبات البقري تتحقق إصابة استعماله وعدمها، واستعمال تلقيح البقري غير مؤلم فهو أخف من شكة إبرة ولا يمرض به الإنسان، ويصح استعماله لأي عمر كان.
والجدري داء متوقع مدة أجل الإنسان، حتى كأنه دين مآله إلى القضاء، وقضاؤه يحصل بالمسارعة إلى استعمال تلقيح البقري أن يريد التخلص من إصابته
خاتمة
هذا آخر ما أوردنا شرحه من النصائح النافعة للصحة، فالصحة جوهر نفيس عن سائر ما عداه؛ إذ بسلبها لا تنفع زينة الحياة، فما ثمرة الأموال لعليل، لا يتمتع منها بشفاء الغليل. يذهب المريض كنوز ذهبه، لمن يبريه من وصبه، ومع ذلك قد يكون خلاف غرضه، فلا يصح له الشفاء من مرضه، تقرع الأمراض باب الخطير، على نسق ما تقرع باب الحقير، ولا ترق لشكواه، ولا تسمع دعواه، حكمة بالغة للحكم العدل، ذي الاقتدار والفضل، فليس بنا قوة ولا حول، بل الكل بحول وقوة ذي الطول، فهو الممرض والشافي، والمبتلي والمعافي، ها نحن الآن في حيز الحياة والثبات، ولا ندري هل نعد غدًا في زمرة الأموات؟ فهذا سر خفي لا نصل إلى فهمه، كيف وقد استأثر به الله في غامض علمه! فلا تثق بالمخايل الطاهرة، من الصحة الزاهية الزاهرة، فربما في أسرع من البرق اللامع، تعترينا الأمراض وتلزمنا المضاجع، وقدرتنا على القبض على الأجل، وحفظ الصحة من الخلل، كاقتدارنا على عروج السما، واتخاذ الأفلاك ملزمًا، فعلينا بالاستعداد للمعاد، ولنكن كالمسافر المستحضر على الحمل والزاد، العازم على الرحيل، الجازم من الإقامة بالقليل. قد كان بالأمس نوبة الجار، وستأتي غدًا نوبة صاحب الدار، ولا خوف علينا ولا حزن، حيث كان خلاص ذمتنا حسن، هذا، والحمد لله وحده، وصلى الله على نبيه وآله وصحبه وسلم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق