حلقة 22
الفصل الرابع من المقالة الثالثةفي عادة سكنى أهل باريس وما يتبع ذلك
تبلغ البلدة أو المدينة من الحضارة على قدر معرفتها والبلاد الإفرنجية مشحونة بأنواع المعارف والآداب التي تجلب الأنس وتزين العمران ، و باريس التي عاصمة فرنسا من أعظم بلاد الإفرنج بناء وعمارة، وإن كانت عماراتها غير جيدة المادة، فهي جيدة الهندسة والصناعة
على أنه ربما يقال أيضًا: أن مادتها جيدة إلا أنها ناقصة؛ لعدم كثرة حجر الرخام فيها، ولخلوها عن بعض أشياء آخر
و أساس المنازل والجدران الخارجية من الحجر المنحوت وأما الداخلية فهي من الخشب الجيد في الغالب، وأما عواميدها فهي غالبًا من النحاس، فقل إن كانت من الرخام ولكن الأسقف من خشب ثمين
كما أن تبليط الأرض يتخذ من حجر البلاط، وقد يكون من الرخام الأسود مع البلاط؛ وذلك أن الطرق والأفنية مبلطة بحجر البلاط المربع، والقاعات بالآجر أو بالخشب، أو بالمرمر الأسود مع البلاط المشغول، وجودة الحجر أو الخشب تختلف باختلاف يسار الإنسان
جدران المنازل من خشب يتم طلائه بالدهانات كما يتم تغطية الطلاء بورق الحائط المنقوش ويرى الطهطاوي أن الورق أفضل من "تبييض الحيطان بالجير"
والغرف مزينة بالكثير من قطع الأساس والنوافذ تغطيها الستائر الملونة وخاصة باللون الأخضر
وأرضيات الغرف مبلطة بخشب أو بنوع من القرميد الأحمر ويتم يوميا تلميع الأرضيات بالشمع الأصفر ويتولى ذلك عمال مختصون
والأسرة مغطاة بمفروشات والأرض مفروشة بالسجاد ، وكل غرفة بها مدفأة ذات مدخنة وفوقها ساعة بمنضدة صغيرة ذات أدراج وحول الساعة من الجهتين آنية فيها أزهار أو تقليد أزهار، وحول هذا من الجهتين القناديل الإفرنجية
وفي غالب غرفهم آلات الموسيقى المسماة (البيانو (، فإذا كانت الغرفة للعمل ففيها طاولة مشتملة على أدوات الكتابة وسكاكين قطع الورق من العاج وغيرها من الأدوات، وأغلب الغرف مشحونة بصور الأقارب و صور «عجيبة» عن القدماء على اختلافهم
بعض طاولات العمل عليها صحف مختلفة وفي غرف الأثرياء (النجفات) العظيمة التي توقد بشموع العسل
وغرف بعض الكبراء منهم تحتوي طاولة وعليها جميع الكتب المستجدة والوقائع وغيرها لتسلية من أراد من الضيوف أن يسرح ناظره، وينزه خاطره في قراءة هذه الأشياء، وهذا يدل على كثرة اهتمام الفرنساوية بقراءة الكتب، فهي أنسهم
ومن كلام بعضهم: نعم المحدث الدفتر، ومن كلام بعض الظرفاء: ما رأيت باكيًا أحسن تبسمًا من القلم
ويتمم الأنس حضور سيدة البيت أي: زوجة صاحبه التي تحيي الضيوف أصالة، وزوجها يحييهم بالتبعية
وتكتمل لطائف الغرف" الصالونات" بخادم قبيح اللون غالباً " هل الطهطاوي عنصري ؟؟ " يقدم أداة التدخين وهي الشبق
( أنبوبة مجوفة من عود خشبي يثبت في أحد طرفيها الحجر الذي يوضع فيه التبغ وكانت تستعمل للتدخين في ذلك العصر )
فإن هذه (الأوض) بما احتوت عليه من اللطائف من (أوضنا) التي يحيا فيها الإنسان بإعطاء شبق٣ الدخان من يد خادم في الغالب قبيح اللون
و البيت عادة أربع طبقات وأحيانا يزيد إلى سبعة طوابق عدا البناء الأرضي
و تحت الأرض " أي الأقبية" أماكن لربط الخيل، أو المطبخ وذخائر البيت، وخصوصًا النبيذ والخشب للوقود
و البيت عندهم مشتمل على عدة مساكن مستقلة ففي كل طابق من البيت جملة مساكن ، والبيوت هي لعامة الناس أما الدور فهي للكبار، والقصور أو السرايات هي بيوت الملك وأقاربه ودواوين المشورة ونحوها
و البيوت لها مراتب أيضًا البيوت التي لها حاجب، ولها باب كبير يسع دخول العربة منه
و البيوت التي داخلها دهاليز ولها بواب، ولا يمكن أن تدخل العربة من بابها
والبيوت التي لا بواب لها
ووظيفة البواب في باريس أن ينتظر الساكن إلى نصف الليل، فإذا أراد الساكن أن يسهر في المدينة زيادة عن الليل، فعليه أن ينبه البواب لينتظره، ولكن لا بد أن يعطيه بعض شيء
وليس على الحارات بواب أصلاً، وليس لها أبواب كما في مصر
العقارات بباريس أثمانها مرتفعة جدا سواء في البيع أو الأيجار وقد تؤجر خالية أو مفروشة
وآلات البيت عند الفرنسيس هي آلات الطباخة والمأكل بأجمعها، بطقمها المشتمل على الفضيات ونحوها
والأسرة أو الطراحات للنوم ومنها ما هو من الريش وتتغير الملاءات باستمرار وعادة ينام الرجل في غرفة منفصلة مع تقادم الزواج
أما إستقبال الضيوف فله الكراسي المكسوة بالحرير ونحوه والشازلونات والكراسي العادية والآلات العظيمة المنظر؛ كالساعات الكبيرة المسماة عندهم: «بندول» وكأواني الأزهار العظيمة، وغيرها من أواني القهوة المموهة بالذهب وكالنجفة المعلقة التي تتقد بالشموع المكررة
وخزانة الكتب التي لها باب زجاجي يظهر منه ما فيها من الكتب جيدة التجليد، وكل إنسان له خزنة كتب، سواء الغني أو الفقير؛ حيث إن سائر العامة يكتبون ويقرءون
يتم فتح القصور الملكية للعوام بتصاريح مطبوعة طوال الأشهر التي يقضيها الملك وحاشيته في الخلاء ، ودخلها الطهطاوي عدة مرات وقال : (( فرأيته من الأمور العجيبة التي ينبغي التفرج عليها، وفيه كثير من الصور التي لا تمتاز عن الناس إلا بعدم النطق))
((سائر الفراش كالكراسي والأسرِّة حتى كراسي المملكة مشغولة شغلاً عظيمًا بالقصب المخيش، ومطلية الذهب إلا أنه لا يوجد بها كثير من الأحجار الكريمة كما يوجد ببلادنا ببيوت الأمراء الكبار بكثرة، فمبنى أمور الفرنساوية في جميع أمورهم على التجمل لا على الزينة وإظهار الغنى والتفاخر.))
يسكن الأثرياء باريس شتاءً وفي أيام الحر يسكنوا في خلاء الريف ومنهم من يسافر لقضاء العطلة السنوية في أنحاء فرنسا أو ما جاورها من الدول (( ليستنشق رائحة البلاد الغريبة، ويطلع على البلاد، ويعرف عوائد أهلها ))
حتى النساء فإنهن يسافرن وحدهن، أو مع رجل يتفق معهن على السفر، وينفقن عليه مدة سفره معهن؛ لأن النساء أيضًا متولعات بحب المعارف والوقوف على أسرار الكائنات والبحث عنها، أو ليس أنه قد يأتي منهن من بلاد الإفرنج إلى مصر؛ ليرى غرائبها من الأهرام والبرابي وغيرها، فهن كالرجال في جميع الأمور
نعم قد يوجد منهن بعض نساء غنيات مستورات الحال يمكن من أنفسهن الأجنبي، وهن غير متزوجات فيشعرن بالحمل، ويخشين الفضيحة بين الناس، فيظهرن السفر لمجرد السياحة أو لمقصد آخر ليلدن، ويضعن المولود عند مرضِع بأجرة خاصة ليتربى في البلاد الغريبة، ومع هذا فالأمر ليس بشائع ففي نساء الفرنساوية ذوات العرض، ومنهن من هي بضد ذلك، وهو الأغلب لاستيلاء فن العشق في فرنسا على قلوب غالب الناس ذكورًا وإناثًا وعشقهم معلل؛ لأنهم لا يصدقون بأنه يكون لغير ذلك إلا أنه قد يقع بين الشاب والشابة فيعقبه الزواج
ومما يمدح به الفرنساوية نظافة بيوتهن من سائر الأوساخ كما أن أهل مصر في قديم الزمان كانوا أيضًا أعظم أهل الدنيا نظافة وكما أن باريس نظيفة فهي خالية أيضًا من العقارب
وتعهد الفرنساوية تنظيف بيوتهم وملابسهم أمر عجيب، وبيوتهم كثيرة الشبابيك التي تجلب النور والهواء داخل البيوت وخارجها وضرفات الشبابيك دائمًا من (القزاز) حتى إذا أغلقت فإن النور لا يحجب أصلاً، وفوقها دائمًا الستائر: للغني والفقير، كما أن ستائر الفرش التي هي نوع من الناموسية غالبة لسائر أهل باريس و جميع ما ذكره الطهطاوي كما يقول "هو تقريبي، بالنظر لما اشتملت عليه، وإن استغرب هذا من لم يشاهد غرائب السياحة، قال بعضهم:
من لم ير الروم، ولا أهلها ما عرف الدنيا ولا الناسا فمن باب أولى بلاد ” أفرنجستان “
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق