الأحد، 28 يوليو 2024

 الحلقة 31

 ثم إن الفرنسيس يميلون بالطبيعة إلى تحصيل المعارف، وتشوقون إلى معرفة سائر الأشياء؛ فلذلك ترى أن سائرهم له معرفة مستوعبة إجمالاً لسائر الأشياء، فليس غريبًا عنها، حتى إنك إذا خاطبته تكلم معك بكلام العلماء، ولو لم يكن منهم؛ فلذلك ترى عامة الفرنساوية يبحثون، ويتنازعون في بعض مسائل علمية عويصة، وكذلك أطفالهم فإنهم بارعون للغاية من صغرهم، فالواحد منهم كما قال الشاعر " عبد الرحيم بن أحمد البرعي "
عشق المعاني الغر وهو مراهق   وافتض أبكار الفنون وليدا
وأولادهم دائمًا متأهلون للتعلم والتحصيل، ولهم تربية عظيمة، وهذا في الفرنسيس على الإطلاق
ويتزوجون في عمر 20 الى 25 سنة قبل تمام تعلمهم، وعادة يشتغلون عند عمر 20 سنة  ولكن قد يستمر في تحصيل العلوم مدة طويلة ليتمكن منها غاية التمكن
 وهذا السن في الغالب تظهر به براعة الإنسان وحسن طالعته
ولكن يسلك علماؤهم مسلكا غير ذلك ليبلغوا التعلم التام وتخصصهم بفرع مخصوص، وكشفهم الغوامض وإبتكار ما يفيد ، وليس عندهم كل مدرس عالمًا، ولا كل مؤلف علامة ولا بد له من درجات معلومة، فلا يطلق عليه عالم إلا  تفوقه وتميزه
و علماء الفرنسيس ليسوا هم القسوس؛ لأن القسوس إنما هم علماء في الدين فقط، وقد يوجد من القسوس من هو عالم أيضًا، وأما من يطلق عليه اسم العالم فهو من له معرفة في العلوم العقلية
أي أن العالم عند الفرنسيين  ليس عالم دين بل عالم بالعلوم العقلية
أما عندنا فالعالم هو المتبحر في العلوم النقلية  وقد يعرف بعض العلوم العقلية كعلوم العربية. والمنطق، ونحوه من العلوم الآلية
 والعلوم في باريس تتقدم بإستمرار ويكتشفون سنويا عدة فنون أو صناعات جديدة، أو وسائط، أو تكميلات
و في رجال العسكرية منهم من طباعه توافق طباع العرب العربا في شدة الشجاعة الدالة على قوة الطبيعة، وشدة العشق الدالة ظاهرًا على ضعف العقل، مزاجهم كالعرب في الغزل بالأشعار الحربية، وقد رأيت لهم كلامًا كثيرًا يقرب من كلام بعض شعراء العرب مثل عنترة بن شداد في قوله
ولقد ذكرتك والرماح نواهل  مني وبيض الهند تقطر من دمي
فوددت تقبيل السيوف لأنها  برقت كبارق ثغرك المتبسم
مجامع العلماء، والمدارس المشهورة، وخزائن الكتب" المكتبات"
الخزانة السلطانية"المكتبة الملكية" وفيها سائر ما أمكن الفرنساوية تحصيله من الكتب في أي علم كان بأي لغة كانت، مطبوعة أو منسوخة، وبها أربعمائة ألف مجلد مطبوع  وفيها عدد كبير من الكتب العربية النادرة بمصر أو بغيرها، وعدة مصاحف لا نظير لها أبدًا، و مصونة غاية الصون، وإن كان عدم إهانتها حاصلاً غير مقصود
 وتوجد المصاحف للبيع في مدينة «باريس»، وبعضهم لخص من القرآن العظيم سائر الآيات التي اختارها للترجمة ثم ترجمها، وضم إليها قواعد الإسلام، وبعض شعبه، وقال في كتابه إنه يظهر له أن دين الإسلام هو أصفى الأديان، وأنه مشتمل على ما لا يوجد في غيره من الأديان
من خزائن الكتب: الخزانة المسماة خزانة «مسيو» وتمسى خزانة «الأرسنال»  الترسانة
Arsenal la Bibliothéque  وهي أعظم الخزائن بعد الخزانة السلطانية، وبها نحو مائتي ألف مجلد مطبوعة، وعشرة آلاف منسوخة، وأغلب هذه الكتب كتب تاريخ وأشعار، خصوصًا الأشعارالإيطاليانية.
ومنها: مكتبة «مزارينه
 Mazarine » وفيها خمسة وتسعون ألف مجلد مطبوعة، وأربعة آلاف منسوخة.
ومنها: مكتبة «الأنسطيطوت
 Bibliotheque de L’Institut » أي دار العلوم أو مكتبة المعهد وفيها خمسون ألف مجلد.
ومنها: مكتبة المدينة، وهي نحو ستة عشر ألف مجلد، وهي دائمًا في الزيادة، وكتبها آداب
ومنها: مكتبة بستان النباتات 
 La Bibliotheque du Jardin des Plantes وفيها عشرة آلاف مجلد في العلوم وفيها مكتبة الرصد الملكي، وفيها كتب علم الهيئة "الفلك"
ومنها: خزانة مكتب الحكمة
 ومنها خزانة «أكدمة الفرنسيس 
Bibliotheque de L’Academie Fançaise » وهي خمسة وثلاثون ألف مجلد،
 وكل هذه مكتبات موقوفة
وهناك خزائن مملوكة وهي كثيرة جدًا: فمنها ما يشتمل على خمسين ألف مجلد، ومنها للدولة نحو أربعين خزانة، فأقل ما يوجد في كل خزانة منها ثلاثة آلاف مجلد، وأكثرها في الغالب خمسون ألف مجلد، وقد تنيف عن ذلك ولا حاجة لتسميتها هنا
ولكل إنسان من العلماء أو الطلبة أو الأغنياء خزانة كتب على قدر حاله، ويندر وجود إنسان «بباريس» من غير أن يكون تحت ملكه شيء من الكتب، فسائر الناس تعرف القراءة والكتابة، وسائر بيوت الأعيان فيها المكتبة، وآلات العلوم وأدواتها، وعلى التحف الغريبة التي تتعلق بالفنون، كالأحجار لعلم المعادن ونحو ذلك،
 ففي «باريس» كثير من الخزائن التي يقال لها «مكتبات المستغربات (المتاحف
Les musées »،فيوجد بها ما تتشوق إليه نفوس الفضلاء ليستعينوا به على الغوص في الطبيعيَّات كالمعادن والأحجار والحيوانات البرية والبحرية المحفوظة الجثة، وسائر المواليد من الأحجار والنباتات، وسائر الأشياء التي فيها آثار القدماء
حيث يقارن الدارس بين وصف الكتاب للموجود بالمتحف وبين ما يراه من حجر أو حيوان محفوظ
 وأنفع الأشياء بالنسبة للطبيعيات بمدينة «باريس» البستان الملكي المسمى «بستان النباتات» وفيه سائر ما يعرفه البشر من الأمور الخارجة من الأرض الغريبة، ويزرع بأرضه سائر النباتات الأهلية التي يعالجون تطبعها عندهم بقوة الصناعة والحكمة، فيطالع طلبة علم العقاقير والحشائش دروسهم ويقابلون ما في الكتاب على ما يرونه، ويأخذون فرعًا من كل صنف من الحشائش يضعونه في نحو ورقة، ويكتبون اسمه وخاصيته
وفيه أيضًا سائر مراتب الحيوانات الحية غريبة أو أهلية برية أو وحشية، فيوجد بها نحو الدب الأبيض والأسود، والسبع، والضبع، والنمورة والسنانير الغريبة، والإبل، والجواميس، وغنم بلاد التبت، وزرافة سنار، وفيلة الهند، وغزلان البربر، والأيل، وبقر الوحش، وأنواع القردة، والثعالب، وسائر أنواع الطيور المعروفة لهم، وسائر هذه الحيوانات التي تراها حية بهذا البستان تراها ميتة أيضًا محشوة بالتبن، يراها الإنسان على صورة الحية، كبو البقر الذي يصنعه الفلاحون بوادي مصر
ويوجد في هذا البستان أروقة مملوءة بالمعادن النفيسة، وسائر الأحجار سواء كانت خاما أو طبيعية، فترى فيها مراتب الطبيعيات الثلاثة "البيولوجي والكيمياء والطبيعة " يسافر أجناسها وأنواعها وأنصافها، ففيها كثير من الأشياء التي لا يمكن أن نجد لها أسماء عربية كحيوانات بلاد أمريكية أو نباتها وأحجارها.
وكل هذه الأشياء موضوعة بهذا البستان كالعينة أو الأنموذج من كل شيء، ومكتوب على كل شيء اسمه باللغة الفرنساوية، أو اللاطينية، مثلاً في القاعة التي فيها سبع مكتوب عليها اسم السبع
 Le sept باللغة الفرنساوية وهو «ليون « Léon »
ومن نوادر البستان أن مرض أحد السباع فدخل حارسه ومعه كلبه فقرب الكلب من الأسد، ولحس جرحه فبرئ الجرح، فحصلت الألفة بين الأسد والكلب، وصار الكلب يتردد دائمًا على الأسد ويراه كأنه من أصحابه، فلما مات الكلب مرض الأسد لفرقته، فوضعوا معه كلبًا آخر، فتسلى به عن الميت، ولا زال معه
في بستان النبات قاعة تسمى «قاعة التشريح» وفيه جثث محنطة ومصبرة و مومياوات
ويوجد بهذا الرواق جمجمة المرحوم الشيخ سليمان الحلبي الذي استشهد بقتله للجنرال الفرنساوي «كليبر» وقتل الفرنساوية له في أيام تغلبهم على مصر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
وفي مجال العلوم الفلكية «المرصد الملكي
l’Observatiere Royal بمدينة باريس» وهو مبني من الحجارة فقط بدون الحديد أو الخشب في مادته، وهو على شكل مسدس الأسطحة المتوازية القائمة الزوايا، ويواجه الجهات الأربع: الشرق، والغرب، والشمال، والجنوب
في طرف الجهة الجنوبية صومعتان مثمنتًا الزوايا، وفي طرف الجهة الشمالية صومعة ثالثة مربعة وهي باب الرصد، وفيه رسم الفرنسيس في رواق في الدور الأول خط نصف نهارهم، فخرج ذلك الخط يقسم الرواق قسمين متساويين فمن هذا الخط يحسب الفرنساوية درجة الطول، فينسبون إليه غيره من الأماكن المغايرة له في السمت، وارتفاع سطحه ثلاث وثمانون قدمًا فوق الأرض، وهو منقسم إلى عدة أروقة مناسبة لحاجة أشغال الفلك، فترى منها النجوم وفي هذه الأروقة امتحنوا ثقل الأجسام الطبيعية، وميزان الهواء، وفي هذا الرصد رواق كبير فيه آلات، وعلى قمته آلة تعديل الرياح المسماة: «الأنيمومتر
Anémomètre  » لقياس قوة الرياح وفيها وعاء معياري لحساب كمية المطر السنوي  «دن العيار»

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق