حلقة 68 من المنهج الوافي في رحلة الطهطاوي نشر 12 محرم 1446هـ / 20 يوليو 2024م
شكلت الجمعية ثلاث مجموعات:المجموعة الإنجليزية: ويشرف عليها المهندس استفنسون Robert Stephenson ، وتختص بدراسة ميناء السويس ومعرفة مدى صلاحيته لاستقبال السفن المتجهة إليه بعد شق القناة، إلاّ أن المجموعة لم تحضر إلى مصر، ولم تهتم بالمشروع، وحولت اهتمامها إلى مشروع خط السكك الحديدية وفعلا أشرف ستيفنسون على أنشاء السكة الحديد في عهد عباس باشا
والمجموعة النمساوية: ويشرف عليها المهندس لويجي نجريللي Luigi Negrelli وتختص بدراسة ساحل البحر المتوسط، ومعرفة إمكانيات إنشاء ميناء على مدخل القناة على البحر المتوسط. وقد وصلت هذه المجموعة إلى مصر في 20 مارس 1847م. وأنجزت مهمتها في شهر يوليو 1847م، واقترحت إنشاء بروزين عند مدخل القناة الشمالي يمتدان من الشاطئ حتى العمق المناسب. ونظراً لأن الظروف ساءت في أوروبا بسبب الثورات، فلم تتمكن من تقديم نتائج دراساتها إلى جمعية الدراسات حتى عام 1855م.
والمجموعة الفرنسية: ويشرف عليها المهندس بولان تالابو (Paulin Talabot)، وتختص بدراسة برزخ السويس، وقد أوفدت هذه المجموعة بعثة إلى مصر تضم عدداً من الفنيين، وطلب منهم تالابو أن يتعاونوا مع لينان، وقد وصلت البعثة إلى القاهرة في 17 سبتمبر 1847م، ورحب بها محمد علي، والي مصر، وقدم لها العون لمساعدتها في إنجاز مهمتها على الرغم من أته كان يعتقد أن مشروع القناة لن يخرج إلى حيز الوجود في ذلك الوقت
استطاعت هذه البعثة أن تهدم الاعتقاد الخاطئ باختلاف مستوى البحرين الأبيض والأحمر. بناءً على نتائج دراسات البعثة نشر تالابو تقريراً في أواخر عام 1847م، تضمن ما توصلت إليه البعثة الفرنسية والمجموعة النمساوية من نتائج، ودراسة وافية للظروف الطبيعية والجيولوجية لمنطقة برزخ السويس، والمشروعات التي يمكن تنفيذها لتحقيق الاتصال بين البحرَيْن الأبيض المتوسط والأحمر. وأرفق بتقريره خريطة للوجه البحري وبرزخ السويس، بمقياس رسم 1/225.000، أوضح عليها مشروع قناة مباشرة، وأخرى غير مباشرة، كما أوضح عليها مشروع لخط سكك حديدية بين الإسكندرية والسويس.
لكن الاضطرابات والثورات، التي سادت أوروبا تسببت في إيقاف نشاط جمعية دراسات قناة السويس.
وكان تالابو، دائماً، يفضل شق قناة غير مباشرة تصل الإسكندرية على البحر الأبيض بالسويس على البحر الأحمر، وتعبر النيل جنوب الدلتا مباشرة، وكان سبب تفضيله ذلك يرجع إلى: صعوبة إيجاد منفذ للقناة وإنشاء ميناء عند طرفها الشمالي"خليج الطينة" لضحالة العمق ا، كما أن تنفيذ القناة المباشرة يستلزم شق برزخ السويس ورفع الملايين من الأمتار المكعبة من الأتربة
أما في القناة غير المباشرة والتي تعتمد على ميناء الإسكندرية، فسيكون هذا الميناء أقرب إلى أوروبا، وسوف تحصل مصر على مزايا تجارية وسياسية من وراء شق قناة غير مباشرة، تخترق الدلتا، وتربط الإسكندرية بالقاهرة بحركة التجارة بين الشرق والغرب، وأصبح يعتقد أن مستقبل مصر مرهون بالاتجاه الذي سوف تأخذه القناة ولكن هناك صعوبات مثل ضرورة إقامة قناطر عند رأس الدلتا للاستفادة منها في توفير المستوى المناسب من الماء في القناة، وصعوبة أخري وهي طريقة عبور القناة الملاحية لنهر النيل من دون اختلاط مياه القناة المالحة بمياه النيل العذبة
بالإضافة إلى اختراق القناة الملاحة لقنوات الري في الدلتا وما تسببه من ارتباك لنظام الري فيها، وبالتالي خسارة للثروة الزراعية، وكذلك مرور السفن التجارية والحربية لمختلف الدول في الدلتا ذات الكثافة السكانية وما تسببه من متاعب سياسية لمصر لذلك زاد ترجيح مشروع "القناة البحرية المستقيمة".
وإلى جانب مشروع تالابو كان هناك مشروع بارو (Barrault) وهو أحد أعضاء "جمعية دراسات قناة السويس"، لتوصيل البحريين عن طريق قناة غير مباشر، تبدأ من الإسكندرية، وتسير بجوار الساحل الشمالي للدلتا على البحر المتوسط على طول خليج أبي قير وشمال بحيرة أدكو، ثم تعبر فرع رشيد، وتخترق بحيرة البرلس محاذية لساحل البحر، ثم تعبر فرع دمياط، وبحيرة المنزلة، وتتجه جنوباً لتصل بحيرة التمساح، ومنها تنتهي عند السويس. وكان هذا المشروع يواجه نفس الصعوبات التي يواجهها مشروع تالابو
مشروع نجريللى
لويجي نجريللى Luigi Negrelli وهو مهندس نمساوي عمل مفتشاً لمنشآت الطرق والأعمال المائية، ثم أصبح الرئيس العام لجميع المنشآت العامة في زيورخ وبعدها مستشاراً عاماً لشركة سكك حديد الإمراطورية النمساوية عام 1840م وتعرف عليه إنفانتان عام 1843م
من ضمن أعضاء جمعية دراسات قناة السويس، وضع نجريللى مشروعه علي أساس إمكان حفر قناة مستقيمة تصل البحر الأبيض بالبحر الأحمر بطريق مباشر، مؤيداً أفكار لينان، مقتنعاً بتساوي مستوى البحرين. ويُعد نجريللي، فيما ذهب إليه، أول من أشار إلى الحل الصحيح لمشكلة توصيل البحرين
لم يبلغ نجريللي زملائه في جمعية دراسات قناة السويس بنتائج أبحاثه، إلاّ في عام 1855م. ومن أهم النتائج التي توصل إليها المهندسون النمساويون، في عام 1847م تحت إشراف نجريللي، هي أن حركة الرواسب في خليج الطينة "الفرما" ضئيلة بحيث تجعله صالح لرسو السفن، ولا خطر منها على الميناء المزمع إنشائه على الطرف الشمالي للقناة المباشرة، ولا على حركة السفن عند مدخل القناة على البحر المتوسط، وهي العقبة الوحيدة التي كان لا يزال يؤمن بها أنصار المشروعات غير المباشرة، ويستندون إلى هذه المخاوف في تفضيل مشروعات القناة الغير المباشرة على مشروع القناة المباشرة
والقناة الغير مباشرة في مشروع لوبير أو تالابو أو بارو يبلغ طولها حوالي 400 كيلو متر، بينمـا القنـاة المباشـرة يبلغ طولهـا 140 كيلومتر، وتخترق القناة المباشرة منطقة صحراوية، ولا تحتاج لأهوسة، وليس لها أثار سيئة مثل القناة غير المباشرة التي تخترق الدلتا بزراعتها ونظامها المائي تم النشر في 12 محرم 1446م / 20 أكتوبر 2024م
حلقة 69 من المنهج الوافي في رحلة الطهطاوي
علاقة فردناند ماري دو لسيبس والسان سيمونيين بالقناة
اختلفت الآراء في تقدير جهود دي لسبس التي بذلها من أجل تنفيذ مشروع قناة السويس وانقسمت إلى فريقين:
الفريق الأول: وهم أنصار (فردناند ماري دو لسيبس)، ويعدونه صاحب الفضل في إخراج المشروع إلى حيز الوجود، وأنه الشخص الوحيد المؤهل الذي أخرج المشروع من حالة الجمود التي أصابته بسبب موقف الدول الأوربية وتعارض مصالحها، واستطاع أن يقنع جميع الأطراف، ويهدئ من حدة المعارضة، ويؤثر في الرأي العام والحكومات والملوك والأفراد والأمراء ورجال الدولة، وكانت لديه القدرة على التنقل بين عواصم الدول المعنية بالمشروع
أما الفريق الآخر: فلا يرى لفردناند ماري دو لسيبس أي فضل في تنفيذ المشروع، إذ يرونه شخصاً دخيلاً على المشروع، ولا علاقة له به والفضل الوحيد له هو حصوله على امتياز حفر القناة، وفي رأيهم أن الإعجاب بفردناند ماري دو لسيبس وجهوده، لا يجب ألاّ يغفل الجانب العملي، والجهود الفنية، والهندسية، التي بذلها الكثيرون غيره ممن اهتموا بموضوع قناة السويس، مثل لينان دي بلفون ولويجى نجريللي، والسان سيمونيين.
فردناند ماري دي لسبس
مولود بـ فرساي في 19 نوفمبر سنة 1805م وكانت أسرة دي لسبس ممن يتوارثون وظائف السلك السياسي الفرنسي في بلاد الشرق، وكانت هذه الوظائف جاسوسية، وأهم اختصاصات الذين تُناط بهم تلك الوظائف رسم الخطوط الاستعمارية، والسهر على تنفيذها بالدس وإثارة الفتن وبمختلف الأساليب
ويقال أن مؤسسها نزح من اسكتلندا إلى فرنسا في القرن الخامس عشر حينما ضمت إنجلترا إليها بلاد اسكتلندا واشتغلت عائلة لسبس في بداية الأمر بصنع الأسلحة وبيعها للنبلاء، ثم تركوا هذه الصناعة وزاولوا أعمال الموثقين ومحرري العقود في البلد الذي أقاموا فيه واسمه بايون(Bayonne) ، حتى صار بيير دي لسبس في بداية القرن الثامن عشر كبير الموثقين، وسكرتير الخزينة في مدينة بايون ولم تكفهم هذه الوظائف
وهم أسرة اشتهرت بالطمع وجنون الاغتناء، فاشتغل عدد منهم بالملاحة وأعمال القرصنة، يسطون على السفن التي تصادفهم في البحار وينهبون ويسفكون الدماء ثم يعودون إلي بلدتهم بايون ليلبثوا وقت قصيراً، يرجعون بعده إلى القرصنة
ويرجع بعض كتاب فرنسا أعمال القرصنة هذه، لما امتاز به دي لسبس من المغامرة، وحدة الذكاء. وقد أنجب بيير دي لسبس غلاماً اسمه دومينيك (Dominique )، شاء أن يترك أعمال القرصنة التي اشتهر بها ذووه، ويرتفع بأسرته إلى مستوى آخر فعمل في وظائف السلك السياسي، وبرز فيها حتى أصبح سفيراً لفرنسا في هولندا، ثم وزيراً لها في بروكسل في عام 1752م وكان لدومينيك هذا أخ يقال له مارثان (Martin) وهو الجد المباشر لفرديناند دي لسبس، إلتحق هو الأخر بالسلك السياسي مستعيناً بنفوذ شقيقه وقضى حياته في هذه الوظائف خارج فرنسا وأنجب مارثان ولدين أحدهما هو بارتليجي دي لسبس، وكانت له في وظائف السلك القنصلي الفرنسي مغامرات منقطعة النظير، والأخر هو ماثيو دي لسبس والد فرديناند، وقد قضى حياته في بلاد أفريقية وأسيوية تقع على شواطئ البحار
وكان ماثيو دي لسبس سليل القراصنة، في مقدمة من وضعوا نواة الاستعمار الفرنسي في بلاد أفريقيا الشمالية، فعمل عيناً لفرنسا على مراكش، ونيطت به مهمة أخرى في طرابلس وليبيا، ثم ما لبث بونابرت أن عينه قومسيراً عاماً لفرنسا في مصر، وجلت جيوش فرنسا عن الأراضي المصرية في سنة 1801م ولكن بقي ماثيو يؤدي وظيفة القنصل الفرنسي
ثم وقف ماثيو دي لسبس في صف محمد على باشا ضد الإنجليز وضمن ذالك القنصل لفرنسا صداقة محمد على، وبسبب العلاقة الوطيدة التي نشأت بين ماثيو دي لسبس ومحمد على شق ولده فرديناند طريقه إلى بيت محمد على
وقامت بينه وبين سعيد باشا صداقة كانت نعمة لفرنسا وللاستعمار الغربي بأسره ونقمه على مصر وبلاد الشرق بأجمعها
وكان لفرديناند دي لسبس أخ يسمى جول (Jules) اشتغل في خدمة السلك القنصلي واستطاع بدهائه أن يتسلط على (باى) تونس حتى عينه وكيلاً لمصالحه في باريس وأخوه الأكبر واسمه تيو دور اشتغل مديراً لقسم من أقسام وزارة الخارجية الفرنسية، ثم وزيراً مفوضاً وترك السلك السياسي مكتفياً بمقعد في مجلس الشيوخ
ولما تصدى أخوه فرديناند لمشروع قناة السويس وضع نفوذه تحت تصرفه، وامتازت تلك الأسرة بالتضامن العجيب بين آحادها. وإذا كان والد فرديناند دي لسبس لم ينحدر من أصل فرنسي فإن أمه لم تكن فرنسية، ولم تجر في عروقها قطرة من دماء فرنسا، فهي السيدة كاترين دي جريفينيه (Catherine de Griveynée) الأسبانية، وأبوها من أصل فلمنكي، وقد تجنس بالجنسية الأسبانية، واشتغل بالتجارة واقتنى منها ثروة واسعة أعزت ماثيو دي لسبس بزواج ابنته. لهذا كان فرديناند دي لسبس كان مزيجاً من دماء مختلفة
ظهور فردناند ماري دي ليسبس علي مسرح مشروع قناة السويس
لم تكن فكرة القناة جديدة على دليسبس، بل يرجع ذلك إلي قبل نحو 20 عاماً مضى أوائل عام 1832م، عندما عين دي ليسبس نائباً للقنصل الفرنسي في الإسكندرية، سافر من تونس إلي مصر على ظهر سفينة كانت قادمة من مارسيليا. وفي طريقها من تونس إلى الإسكندرية، توفي أحد ركاب هذه السفينة نظراً لانتشار وباء الكوليرا في فرنسا، فتم حجز ركاب السفينة بالحجر الصحي بالإسكندرية لمدة شهر
وفي هذا الوقت حاول ميمو (Mimaut) قنصل فرنسا العام في مصر تخفيف حالة الضيق عند دي لسبس من كثرة الانتظار في الحجر الصحي، فأرسل له بعض الكتب كان من ضمن هذه الكتب التقرير الذي وضعه المهندس الفرنسي لوبير أيام الحملة الفرنسية على مصر والخاص بمشروع القناة بين البحر الأحمر والبحر الأبيض، وكان هذا التقرير سبباً في إثارة انتباه دي لسبس بمشروع القناة
ومنذ ذلك الحين لم ينقطع تفكيره في ذلك المشروع خصوصاً وأنه عندما حضر إلى مصر كان المهندس لينان مهتماً بمشروع توصيل البحريين وأطلع لينان دي لسبس على هذه المشروعات
وفي الإسكندرية استطاع فردينان دي لسبس أن يكسب الكثير من الأصدقاء، فقد كان محدثاً لبقاً، وراقصاً بارعاً، وفارساً ماهراً. وقد تجلى نشاط دي لسبس عندما انتشر وباء الطاعون في نوفمبر 1834م فكون لجنة صحية تحت إشرافه وبذل جهده للعناية بالمرضى ومساعدتهم، فازدادت مكانته في نفوس الناس، ونال وسام جوقة الشرف من الحكومة الفرنسية، عام 1836م.
وعندما جاء القس أنفانتان، زعيم السان سيمونيين، إلى مصر عام 1833م اتصل بدي لسبس بصفته الوظيفية نائباً القنصل الفرنسي، لتسهيل إقامتهم بمصر، كان أنفانتان يطلعه على أبحاثهم التي قاموا بها خلال فترة وجودهم بمصر من عام 1833م إلي عام 1836م، ومن ثم ازدادت معلومات دي لسبس عن مشروع القناة
وعندما نقل دي لسبس من مصر عام 1838م إلى لاهاي لم يَعُدّ يتابع المشروع حيث ركز على عمله في السلك الدبلوماسي.
وبعد أن أعفي دي لسبس من منصبه عام 1849م، بدأ يوطد علاقاته مع جمعية دراسات قناة السويس، وحاول أن يعرض المشروع على عباس باشا، والي مصر، إلاّ أنه لم يفلح ثم حاول أن يعرض المشروع على الباب العالي إلا أن المشروع لم يقبل. وإزاء ذلك تخلى دي لسبس مؤقتاً عن تحريك المشروع متحيناً لفرصة جديدة
(عباس باشا وهو ابن طوسون بن محمد علي باشا والي مصر، ولد في عام 1813م، في جدة ونشأ في القاهرة، وتولى حكم مصر في 10 نوفمبر 1848م، بعد وفاة إبراهيم باشا، واستمر في حكم مصر الفترة من 1848م إلى 1854م،وخلال فترة حكمه عاش بمعزل عن الناس حياة بذخ، وسادت الفوضى وفسد النظام وأغلقت المدارس، وقتل في قصره ببنها في 13 يوليو 1854م)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق