الأحد، 28 يوليو 2024

 حلقة 40 

ومن أغرب ما وقع ببلاد الإفرنج في هذا الأمر، أن ملك الإنكليز «جرجس  "جورج" الرابع» اتهم زوجته بالفاحشة بعد أن عهد منها ذلك المرار العديدة، واشتهرت بذلك عند الخاص والعام، لكونها كانت تسافر ببلاد الإفرنج مع من تريد، ولها في كل محل عشاق، فلما رفع أمرها عند شرعهم، وأقيمت الدعوى كما ينبغي، وقصد بإثبات زناها طلاقها ليتزوج بغيرها، فلم تثبت أمور كافية في الطلاق، فحكم القاضي بإبقائها على عصمته قهرًا عنه، فبقيا متفرقين، ولكن لم يتزوج غيرها، وذاع أمرهما وشاع، ولكن في الحقيقة وإن كان يعتقد فيها ذلك إلا أنه بمجرد القرائن لا بالمشاهدة، ألا لا نثلم عرضه، فمادة العرض التي تشبه الفرنساوية فيها العرب هو اعتبار المروءة وصدق المقال، وغير ذلك من صفات الكمال
ويدخل في العرض أيضًا العفاف، فإنهم تقل فيهم دناءة النفس، وهذه الصفة من الصفات الموجودة عند العرب، والمركوزة في طباعهم الشريفة، وإن كانت الآن قد تلاشت فيهم، واضمحلت فإنما هو لكونهم قاسوا مشاق الظلم، ونكبات الدهر، وأحوجهم الحال إلى التذلل والسؤال، ومع ذلك فقد بقي منهم من هو على أصل الفطرة العربية، عفيف النفس على الهمة، كما قال الشاعر( عبد المحسن الصحاف المكي مولود في البحرين وتعلم في مكة )
فدعني ونفسي والعفاف فإنني  عن الناس من فضل المهيمن مغتنى
فلو يدعنى كسرى إلى ملكه فقد   جعلت حيائي في حياتي ديدني
وأصعب من قطع اليمين على الفتى  جنايته حرا إساءة مؤمن
وأنكى على القلب السليم تأثراً  صنيعة بر نالها من يدي دني

وأما الحرية التي تتطلبها الإفرنج دائمًا فكانت أيضًا من طباع العرب في قديم الزمان، كما تنطق به المفاخرة التي وقعت بين «النعمان بن المنذر» ملك العرب، «وكسرى» ملك الفرس وصورتها:
 إنه قدم النعمان على كسرى، وكان عنده وفود الروم والهند والصين والعجم والترك وغيرهم، فذكروا من ملوكهم وبلادهم وعماراتهم وحصونهم، فافتخر النعمان بالعرب وفضلهم على جميع الأمم، ولم يستثن فارسًا ولا غيرها
فقال كسرى، وقد أخذته الغيرة: يا نعمان، لقد فكرت في العرب وفي غيرهم من الأمم ونظرت في حال من يقدم عليَّ من الوفود، فوجدت الروم لها حظ في اجتماع ألفتها، وعظيم سلطانها وكثرة مدائنها، ووثيق دينها
ورأيت الهند شهيرة الحكماء طيبة الثراء، كثيرة الأنهار، والبلاد والثمار، عجيبة الصناعة، مرونقة الحسان، معمورة بالأهل.
وكذلك الصين عجيبة في اجتماعها، وكثرة صنائع أيديها، وهمتها في الحروب وصنعة الحديد، وأن لها ملكًا يجمعها
وكذلك الترك مع ما هم عليه من سوء الحال في المعاش، وقلة الريف والثمار والحصون، وما هو رأس عمارة الدنيا من المساكن والملابس، فإن لهم بعد ذلك ملوكًا تضم قاصيهم، وتدبر أمورهم.

ولم أر للعرب شيئًا من ذلك من خصال الخير في أمر دين ولا دنيا، ولا حرمة ولا قوة، ولا عقد، ولا حكمة، مع ما يدل على تدانيها وذلها، وضعف همتها، بحالهم التي هم بها مع الوحوش النافرة، والطيور الحائرة يقتلون أولادهم من الفاقة، ويأكل بعضهم بعضًا من الحاجة، قد حرموا من مطاعم الدنيا ومشاربها وملابسها ولهوها ولذاتها، وأعظم طعام ظفروا به لحوم الإبل التي يعافها كثير من الطيور والسباع؛ لثقلها، وسوء طعمها، وخوف دائها، وإن قرى أحد ضيفًا اعتدها مكرمة، وإن أطعم لقمة عدها غنيمة، تنطق بذلك أشعارهم، وتفتخر بذلك رجالهم، ما عدا هذه التنوخية التي أسس جدي اجتماعها، وشد مملكتها ومنعها من عدوها، ليجري له ذلك إلى يومنا هذا، فإن لها مع ذلك آثارًا وحصونًا وأموالاً تشبه أموال بعض الناس، لكني أراكم لا تسكنون على ما بكم من الذلة والقلة والفاقة والبؤس حتى تفتخرون، وتريدون أن تنزلوا فوق مراتب الناس
فقال النعمان: أصلح الله الملك.. صدقت، إن هذه الأمة تسمو بفضلها، وبعظم خطبها، وعلو درجتها، إلا أن عندي جوابًا في كل ما نطق به الملك من غير رده عليه، ولا تكذيب له! فإن أمَّنتني من الغضب مما أتكلم به، فعلت
قال كسرى:
 [تكلم] وأنت آمن، فقال النعمان: أمّا أمتك فلا تنازع في الفضل لموضعها التي هي به من عقولها وأخلاقها، وبسطة محلها، وبحبوحة عزها، وما كرمها الله تعالى به من ولايتك وولاية آبائك وأجدادك، وأما الأمم التي ذكرت فما من أمة إلا فضلتها العرب بفضلها
قال كسرى: لماذا؟ قال النعمان: بعزها ومنعتها، وحسن وجوهها وذمتها وبأسها ورياستها وسخائها وحكمة ألسنتها، وشدة عقولها ووفائها.
فأما عزها ومنعتها؛ فإنها لم تزل مجاورة لآبائك وأجدادك الذين فتحوا البلاد، ووطئوا العباد، وأقاموا الملك، وقادوا الجيوش، ولم يطمع فيهم طامع، ولم يزالوا عندهم محترمين، ولا نال أحدًا منهم نائل، بل حصونهم ظهور خيولهم، ومهادهم الأرض، وسقوفهم السماء وإلى جانبهم السيوف، وعدتهم السقُف؛ إذ غيرها من الأمم، إنما عزها بالحجارة والطين والجزائر والبحور والقلاع والحصون
وأما حسن وجوهها وألوانها، فقد يعرف بذلك فضلهم على الهند المحترقة، والصين المتجمشة، والترك المشوهة، والروم المقترة الوجوه
وأما أنسابها وأحسابها: فليس أمة من الأمم إلا وقد جهل أباؤها وأصولها، وكثير من أولها وآخرها، حتى إن أحدهم ليسأل عمن وراء أبيه فلا ينسب، ولا يعرفه، وليس أحد من العرب إلا ويسمي آباءه أبا فأبًا أحاطوا بذلك أحسابهم، وحفظوا بذلك أنسابهم، فلا يدخل رجل في غير قومه، ولا ينسب إلى غير نسبه، ولا يدعى إلى غير أبيه.

وأما شجاعتها وسخاؤها: فإن أدناهم رجلاً يكون عنده البكرة والناب، عليها بلغته وحمولته وشبعه وريه، فيطرقه الطارق الذي يغتذى بالفلذة، ويجتزئ بالشربة، فيعقرها له، ويرضى أن يخرج له عن دنياه كلها فيما يكتسبه من حسن الأحدوثة وطيب الذكر والثناء
وأما حكمة ألسنتها: فإن الله تعالى أعطاهم أشعارًا، ورونقًا كاملاً، وحسن وزنه وقوافيه، مع معرفتهم بالإشارة وضربهم الأمثال: وبلاغتهم في الصفات ما ليس من ألسنة الأجناس
ثم إن خيولهم أفضل الخيول، ونساءهم أعف النساء، ولباسهم أحسن اللباس، ومعادنهم الذهب والفضة، وأحجار جبالهم الجزع، ومطاياهم التي لا يبلغ إلا على مثلها سفر، ولا يقطع إلا بمثلها بلد قفر
وأما دينها وشريعتها، فإنهم متمسكون به أعظم تمسك، وإن لهم أشهرًا حرمًا، وبلدًا محرمًا، وبيتًا محجوجًا، ينسكون فيه مناسكهم، ويذبحون في ذبائحهم، فيلقى الرجل فيه قاتل أبيه وأخيه، وهو قادر على أخذ ثأره منه وإدراك رغمه فيه، فيحجزه كرمه، ويمنعه دينه عن تناوله إياه؛ احترامًا لذلك البيت وتشريفًا له
وأما وفاؤهم: فإن أحدهم يلحظ اللحظة، فهي عقد لأهلها، لا يرجع عما أضمره في نفسه حتى يبلغه، وأحدهم يرفع عودًا من الأرض، فيكون رهنًا بدينه فلا يطلق رهنه ولا يخفر ذمته؛ خوفًا من الله تعالى
 وإن أحدهم يبلغه أن أحدًا استجار به وعسى أن يكون نائيًا عن داره، فيمنع عنه عدوه، ويحميه منه ولو تفنى قبيلته، أو تلك القبيلة التي استجار عليها، وذلك لما أخفر من جواره، وإن أحدهم ليلجأ إليه المحروم، والمحدث عنه، بغير معرفة ولا قرابة فينزلونه عندهم، وتكون أنفسهم وأموالهم دون ماله
وأما قولك أيضًا الملك، حفظك الله:
 إنهم يقتلون أولادهم من الحاجة، فإنما يفعله من فعله منهم رغم أنفه حذرًا من العار، وخيفة وغيرة من الأزواج.
وأما قولك أيها الملك:
 إن أفضل طعام ظفروا به لحوم الإبل على ما وصفت منها، فما تركوا ما دونها إلا احتقارًا له، فعمدوا إلى أجلها وأفضلها، فكانت مراكبهم ومطاعمهم، من أنها أكثر البهائم لحومًا، وأطيبها شحومًا، وأرقها ألبانًا، وأقلها غائلة، وأحلها مضغة، وإنه لا شيء من اللحوم يفاخر لحمها إلا استبان فضلها عليه
وأما محاربتهم وأكلهم بعضهم بعضًا، وتركهم الانقياد إلى رجل واحد يسوسهم ويدبر أمرهم، فإنما يفعل ذلك من الأمم من علمت الضعف من أنفسها، وتخوفت من نهوض عدوها عليها، فإنهم يحتاجون إلى ملك، يدبر أمرهم، ويكون رجلاً من أعظمهم شأنًا وقدرًا، ويكونون معترفين بشرفه على سائرهم فينقادون إليه بأزمَّتهم، وينقادون إلى أمره.
وأما العرب: أيها الملك، فإن كثيرًا فيهم، لعظم كرمهم ووقائهم، ودينهم، وحكمة ألسنتهم، وسخاء نفوسهم يقولون: إنهم ملوك بأجمعهم مع رفعتهم، فلا ينقاد أحد إلى الآخر فإنهم أشراف
وأما اليمن، التي وصفها الملك:
 فإن آباءك وأجدادك أعلم بصاحبها لما أتاه ملك الحبشة في مائتي ألف، وتغلب على ملكه وجاء إلى بابك وهو مستصرخ ذليل حقير مسلوب فلم يجره أحد من أجدادك ولا آبائك، فاستجار بالعرب فأجاروه، ولولا ما وتر به من بلية العرب لمال إلى نقص، ولم يرجع إلى
محله، ولولا أنه وجد من يجيد معه الطعان بقتل الأحرار، وتبدد شمل الكفار، وبذبح العبيد الأشرار لم يرجع إلى اليمن
قال: فعجب كسرى مما جاء به النعمان، ثم قال له: إنك لأهل لموضعك من الرياسة، ولأهلك ولأهل إقليمك، ولما هو أفضل منه ثم كساه وأنعم عليه، وأعطاه أشياء جليلة ثم سيَّره إلى موضعه من الحيرة، ثم بعدُ سيّر إليه وقتله
والتنوخية فرقة من اليمن
( ومن الويكيبيديا التنوخيون أو تنوخ قبائل عربية كانت تقطن في جنوب سوريا والأردن "مملكة الأنباط سابقا" وغربي العراق وشمال شبه الجزيرة العربية منذ القرن الأول قبل الميلاد
 أحياناً تطلق عليهم المصادر اليونانية اسم «ساراكينوس»
كان جذيمة الأبرش ملكاً على قبائل التنوخيين المذكورة في نقوش أم الجمال والنمارة
 ومن القبائل التنوخية قبيلة لخم/المناذرة التي أسست مملكة الحيرة في العراق وقبيلة الغساسنة الذين حكموا جنوب بلاد الشام استعمل التنوخيون الخط النبطي وبلغة عربية في نقوشهم وكانوا حلفاء الرومان ويبدو أنهم استطاعوا إخضاع قبائل مثل نزار ومعد وأزد التي كانت تقطن في شمال الجزيرة العربية )
 وقال المتنبي على لسان بعضهم:
قُضاعَةُ تَعلَمُ أَنّي الفَتى الـ  ـلَذي اِدَّخَرَت لِصُروفِ الزَمانِ

وَمَجدي يَدُلُّ بَني خِندِفٍ  عَلى أَنَّ كُلَّ كَريمٍ يَمانِ

أَنا اِبنُ اللِقاءِ أَنا اِبنُ السَخاءِ  أَنا اِبنُ الضِرابِ أَنا اِبنُ الطِعانِ

أَنا اِبنُ الفَيافي أَنا اِبنُ القَوافي  أَنا اِبنُ السُروجِ أَنا اِبنُ الرِعانِ

طَويلُ النِجادِ طَويلُ العِمادِ  طَويلُ القَناةِ طَويلُ السِنانِ

حَديدُ اللِحاظِ حَديدُ الحِفاظِ  حَديدُ الحُسامِ حَديدُ الجَنانِ

يُسابِقُ سَيفي مَنايا العِباد  إِلَيهِم كَأَنَّهُما في رِهانِ

يَرى حَدُّهُ غامِضاتِ القُلوبِ  إِذا كُنتُ في هَبوَةٍ لا أَراني

سَأَجعَلُهُ حَكَماً في النُفوسِ  وَلَو نابَ عَنهُ لِساني كَفاني

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق