حلقة 23
الفصل الخامس من المقالة الثالثةفي أغذية أهل باريس وفي عاداتهم في المآكل والمشارب
قوت أهل باريس هو الحِنطة محلية أومستوردة فيطحنونها في طواحين الهواء والماء، ويخبزونها عند الفران فيباع الخبز في دكانه، أي لا يخبزون في البيوت وعلة ذلك توفير الزمان والاقتصاد فيه؛ لأن سائر الناس مشغولون في أشغال خاصة
و الخبز متوفر دائما وفي الحقيقة لا يمكن فقد العيش أبدًا بمدينة باريس، بل ولا فقد غيره من أمور الأغذية
وأدم أهل هذه المدينة اللحوم والبقول والخضراوات والألبان والبيض وغيرها، والغالب تعدد الأطعمة ولو عند الفقراء
و المذابح عندهم تكون بأطراف المدينة لا داخلها
وكيفية الذبح تختلف عندهم، فأما ذبح الضأن وعجول البقر فإنه أهون من ذبح غيره، فإنهم ينفذون السكين وراء زوره يعني بين زوره ورقبته، ثم يقطعونه بعكس ما نفعل
وأما الثيران فيضربونها بمقامع من حديد في وسط رأسها فيدوخ من عِظم الخبط، ثم يكررون ذلك عدة مرات، فيقطع الثور النفس مع بقاء الحركة، ثم يذبحونه كما تقدم من ذبح الضأن
(( ولقد بعثت خادمًا لي مصريًا إلى المذبح ليذبح ما اشترى منه كما هو عادتي، فلما رأى معاملة الثيران بمثل ذلك الأمر البشع جاء يستجير، ويحمد الله تعالى؛ حيث لم يجعله ثورًا في بلاد الإفرنج، وإلا لذاق العذاب كالثيران التي رآها )) و لا وجود للجواميس بهذه البلاد إلا للفرجة
وأما ذبح الطيور فمنهم من يصنع فيها كالغنم، ومنهم من يقطع لسان الطائر، ومنهم من يخنقه بفتلة خيط، ومنهم من يذبحه من قفاه إلى غير ذلك ، وأما الأرانب فإنها لا تذبح أبدًا، بل تخنق ليحقن فيها دمها.
أما الخنازير فلها مذبحًا مخصوصًا ولم يراه الطهطاوي
هل تلك الذبائح شرعية ؟؟؟ لم يوضح الطهطاوي ولم يذكر إمتناعه عن "المنخنقة والموقوذة "
ثم من الأمور التي بها راحة للناس بمدينة «باريس» محال الأكل المسماة «الرسطراطور restaurant » فإنها مستوفية لما يجده الإنسان في بيته بل أعظم، وقد يجد الإنسان ما يطلبه حاضرًا، وفي هذه «الرسطراطور» غرف لطيفة متعددة مستوفية لآلات البيوت، وربما يوجد فيها محال للنوم مفروشة بأعظم الفراش" أي الفنادق " وكما يوجد في «الرسطراطور» أنواع المآكل والمشارب يوجد فيها أنواع الفواكه والنُقَل
لا يستخدم الفرنسيون أطباق النحاس أبدا في الطعام بل الأطباق الصيني"البورسيلين" ويضعون على (السفرة) دائمًا قدام كل إنسان شوكة وسكينًا وملعقة، والشوكة والملعقة من الفضة، ويرون أن من النظافة ألاّ يمس الإنسان الشيء بيده، وكل إنسان له طبق قدامه، بل وكل طعام له طبق، وقدام الإنسان قدح زجاجي خاص للماء وعلى السفرة عدة أوان صغيرة من الزجاج للملح، والفلفل، والخردل ...إلخ
وعموماً فآداب سفرتهم وترتيباتها عظيمة جدًا، وابتداء المائدة عندهم بالحساء "لشوربة" وختامها الحلويات والفواكه، والغالب في الشراب عندهم النبيذ على الأكل بدل الماء
والأكابر من الناس يشربون القليل من النبيذ فإن السكر عندهم من العيوب والرذائل، وبعد تمام الطعام ربما شربوا شيئًا يسيرا من العرقي
لا يتغزل الفرنسيون في الخمر كثيرًا في أشعارهم، وليس لهم أسماء كثيرة تدل على الخمرة كما عند العرب أصلاً، فهم يتلذذون بالذات والصفات، ولا يتخيلون في ذلك معاني ولا تشبيهات ولا مبالغات، نعم عندهم كتب مخصوصة متعلقة بالسكارى، وهي هزليات في مدح الخمرة، لا تدخل في الأدبيات الصحيحة في شيء أصلاً
ويكثر في «باريس» شرب الشاي عقب الطعام؛ لأنهم يقولون إنه هاضم للطعام، ومنهم من يشرب القهوة مع السكر، وفي عوائد أغلب الناس أن يفتتوا الخبز في القهوة المخلوطة باللبن، ويتعاطوها في الصباح
ولهم طرق عجيبة في حفظ الألبان واللحوم والفواكه ولكن طعامهم عديم اللذة، ولا حلاوة صادقة في فواكه هذه المدينة إلا في الخوخ
وأما خماراتها فإنها لا تحصى؛ فما من حارة إلا وهي مشحونة بهذه الخمارات، ولا يجتمع فيها إلا أراذل الناس وحرافيشهم مع نسائهم، ويكثرون الصياح وهم خارجون منها ولكن لا يقع منهم في سكرهم أضرار أصلاً
------------------
الفصل السادس من المقالة الثالثة
في ملابس الفرنسيس
غطاء رأس الإفرنج (البرنيطة)، ونعالهم الصرم السوداء، و(التاسومات أي الأحذية الخفيفة ) و لباسهم هو الجوخ الأسودغالباً وليس للفرنسيين ملبس محدد و كل إنسان يلبس باختياره ما تأذن له العادة بلبسه، و لبسهم في غاية النظافة و الموسر يغيرملابسه عدة مرات إسبوعياً
وملابس النساء ببلاد الفرنسيس لطيفة بها نوع من الخلاعة، خصوصًا إذا تزيَّنّ بأغلى ما عليهن، ولكن ليس لهن كثير من الحلي فإن حليَّهن هو الحلق المذهب في آذانهن، ونوع من الأساور الذهب يلبسنه في أيديهن خارج الأكمام، وعقد خفيف في أجيادهن، وأما الخلاخل فلا يعرفنها أبدًا، ولبسهن في العادة الأقمشة الرقيقة من الحرير أو (الشيت) أو البفت) الخفيف)، ولهن في البرد شريط فروة فيضعنه على رقابهن، ويرخين طرفيه كالمآزر؛ حتى يصل بطرفيه إلى قرب القدمين
ومن عوائدهن أن يحتزمن بحزام رفيع فوق أثوابهن، حتى يظهر الخصر نحيفًا ويبرز الردف كثيفًا، ومما أنشده الحاجري في ديوانه (حسام الدين عيسى بن سنجر بن بهرام الحاجري الإربلي يعرف أيضًا بـبلبل الغرام )
وإن كان فيه خروج قوله:
ومزنر ياليتني أستاذه كيما أفوز بضمة من خصره
القس يسقيه شبيهة خده والمسلمون بأسرهم في أسره
فوحقه لولا رشاقة قدِّه ما رقَّ إسلامي لشدة كفره
ومن خصال النساء أن يشبكن بالحزام قضيبًا من صفيح من البطن إلى آخر الصدر؛ حتى يكون قوامهن دائمًا معتدلاً لا اعوجاج به، ولهن كثير من الحيل..
ومن خصالهن التي لا يمكن للإنسان أن لا يستحسنها منهن عدم إرخائهن الشعور؛ كعادة نساء العرب، فإن الفرنسيس يجمعن الشعور في وسط رءوسهن، ويضعن فيه دائمًا مشطًا ونحوه
ومن عوائدهن في أيام الحر كشف الأشياء الظاهرية من البدن؛ فيكشفن من الرأس إلى ما فوق الثدي، حتى إنه يمكن أن يظهر ذلك من الأمور المخلة عند أهل هذه البلاد
ولكن لا يمكن لهن أبدًا كشف شيء من الرجلين، بل هن دائمًا لابسات للشرابات، الساترة للساقين، خصوصًا في الخروج على الطرق، وفي الحقيقة سيقانهن غير عظيمة أصلاً، فلا يصلح لهن قول الشاعرذي الرمة وهو غيلان بن عقبة بن نهيس بن مسعود العدوي
لَم أَنسَهُ إِذ قامَ يَكشِفُ عامِداً عَن ساقِهِ كَاللُؤلُؤِ البَرّاقِ
لا تَعجَبوا أَن قامَ فيهِ قِيامَتي إِنَّ القِيامَةَ يَومَ كَشفِ الساقِ
وَنَهبٍ كَجَمّاعِ الثُرَيّا حَوَيتُهُ بِأَجرَدَ مَحتوتِ الصَفاقَينِ خَيفَقِ
إِذا فارَقَتهُ تَبتَغي ما تَعيشُهُ كَفاها رَذاياها الرَقيعُ الهَبَنَّقُ
وملابس الحزن عند الفرنسيس هي علامة حزن تلبس مدة معلومة، ولها محل معلوم؛ فالرجل يضع علامة الحزن في (برنيطته) مدة معلومة، والمرأة في ثيابها والولد على فقد أبيه أو أمه يلبس علامة الحزن ستة أشهر، وعلى فقد الجدة أربعة أشهر ونصفًا والزوجة على فقد الزوج سنة وستة أسابيع، وعلى فقد الزوجة ستة أشهر، وعلى فقد الأخ أو الأخت شهرين، وعلى فقد الخال، والخالة، والعم، والعمة ثلاثة أسابيع، وعلى فقد أولاد الأعمام والعمات والأخوال والخالات أسبوعين.
ويستخدم الرجال الشعر المستعار "الباروكة" وشاعت عندهم تلك العادة من زمن «لويز الرابع عشر» ملك فرانسا؛ و كان يلبسها
ويستنكر الطهطاوي إرتداء النساء في القاهرة الباروكة ((ومن الغريب أنها تستعمل الآن في مصر بين نساء القاهرة))
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق