حلقة 11
الماسوني جومار أرسل هو الآخر إلى ولي النعم محمد على يمدح له الكتاب، وحين وصله
سر به سروراً عظيمأ ، وأمر بطبعه في مطبعة بولاق، وبأن يقرأ في قصوره، وفي
المدارس، وبأن يوزع على الدواوين والأعيان.
وكتاب
الطهطاوي الذي سر به محمد على، ورسالة دي ساسي إلى الطهطاوي عن رجائه أن ينال
الحظوة عند الباشا بكتابه وينعم عليه، ورسالة جومار إلى ولي النعم يمدح الطهطاوي
وكتابه، تعرف منها إحدى الملامح الرئيسية في مسار الدولة الماسونية التي وضع
قواعدها محمد على، والتي ما زالت سارية فيها إلى يومك هذا
فبعد
إطاحة محمد علي بالصفوة من أهل الحل والعقد، والطبقة القوامة على المعيار
والميزان، وهو بوصلتها في القبول أو الرفض ، وبعد إخراجهم من السلطة ومن قيادة
المجتمع وأنسجته، بدأت تتكون وتحل محلهم في المسار اليهودي الماسوني
طبقات من
النخب المزورة والمرتزقة، التي تحيط بولي النعم وبوصلتها رضاه، وتفعل أي شيء يوافق
هواه، في مقابل ما يمنحه لها من مناصب أو مال أو شهرة وبريق.
فلا تعجب
إذا علمت أن رفاعة الطهطاوي الذي ولد في أسرة اضطر عائلها من ضيق ذات يده إلى ترك
بلده طهطا والانتقال إلى بلدة بالقرب من جرجا، ليكون في كفالة بعض أقاربه بها كما
يقول علي مبارك الطهطاوي توفي وفي حوزته 1600 فدان، وهبها له أولياء النعم ما فعله لأهوائهم، محمد على وحده وهبه 250 فدانا في مختلف العهود التي مرت عليه في
المسار اليهودي الماسوني، نظير سيره في ركابهم وقد كان الباشا يحتكر الأراضي في
مصر كلها، ولم يكن أحد فيها يملك شيئا إلا هو أو من ينعم عليه
وهذه الطبقات من المرتزقة في زماننا، هي الساسة ومن يشتغلون بالسياسة، ودوائر
السلطة والإدارة، والأدباتية والمشخصاتية، وكتاب الصحف والشاشات، وطراز من أساتذة
الجامعات، وصنف من الموظفين وحفظة الأكلشيهات.
فإليك
نموذجا من كتاب: تخليص الإبريز، على إزاحة المعيار والميزان من ذهن رفاعة الطهطاوي
ونفسه التي أعاد تكوينها وملأها الماسون في فرنسا، ليس في السياسة وشؤون الحكم، بل
في القيم والأخلاق والعلاقات الاجتماعية.
يقول
رفاعة الطهطاوي، الذي كان إماماً وواعظا وبدأ تعليمه( مثل طه حسين من بعده) في
الأزهر:
وحيث إن كثيرا ما يقع السؤال من جميع الناس على حالة النساء عند الإفرنج، كشفناعن
حالهن الغطاء، وملخص ذلك أيضا أن وقوع اللخبطة بالنسبة لعفة النساء لا يأتي من
كشفهن أو سترهن، بل منشأ ذلك التربية الجيدة والخسيسة، والتعود على محبة واحد دون غيره،
وعدم التشريك في المحبة، والالتئام بين الزوجين ".
ما يعني
فهل تنبهت أنه سؤى بين الستر والعري، ثم جعل مصدر العفة وحافظها المحبة والالتئام
بين الزوجين، وهوأن افتقاد هذه المحبة وهذا الوئام، ووقوع النفور أو الخصام، يفقد
العفة مصدرها ويبرر نقيضها، فكل من خاصمت زوجها أو خاصمها صارت الفاحشة حق من حقوقها
ثم هل تنبهت إلى العلة الحقيقية في كلامه،
وهي أنه جعل الزواج علاقة إنسانية محض ومحصورة بين طرفيها، وأطاح بمرجعيتها
الإلهية، التي هي مصدرها وضابطها، وهي الحافظ للعفة والمانع من الفاحشة، سواءا
وجدت المحبة بين الزوجين أو فقدت، وأطاح بالمعيار
والميزان
من الحكم على العفة وعلى نقيضها، ومن الحكم على الأزياء والستر والعري
والنتيجة الحقيقية للأفكار وطريقة التفكير
التي سربها اليهود والماسون إلى ذهن الطهطاوي ونفسه، وأعادوا بناءها بها، هي
الإطاحة بمسألة الألوهية، وهي المرجعية ومصدر المعاييروالموازين، من القيم
والأخلاق والعلاقات الاجتماعية، وإحلال النسبية المطلقة والحكم بالأهواء محلها،
والإغواء وإشاعة الفواحش مغلفة بالعبارات المزخرفة والمقاييس المطاطة.
وهاك
رفاعة الطهطاوي يخبرك أن:
"الرقص عندهم فن من
الفنون، وقد أشار إليه المسعودي في تاريخه المسمی: مروج الذهب، فهو نظير المصارعة
في موازنة الأعضاء ودفع قوي بعضها إلى بعض، فليس كل قوي يعرف المصارعة، بل قد
يغلبه ضعيف البنية بوساطة الحيل المقررة عندهم، وما كل راقص يقدر على دقائق حركات
الأعضاء، وظهر أن الرقص والمصارعة مرجعهما شيء واحد يعرف بالتأمل، ويتعلق بالرقص
في فرنسا كل الناس، وكأنه نوع من العياقة والشلبنة لا من الفسق، دائماً غير خارج
عن قوانين الحياء، بخلاف الرقص في أرض مصر، فإنه من خصوصيات النساء، لأنه لتهييج
الشهوات، وأما في باريس فإنه نمط مخصوص لا يشم منه رائحة العهر أبدا، وكل إنسان
يعزم امرأة يرقص معها، فإذا فرغ الرقص عزمها آخر للرقصة الثانية، وهكذا، وسواءا
كان يعرفها أو لا ... وقد يقع في الرقص رقصة مخصوصة بأن يرقص الإنسان ويده في
خاصرة من ترقص معه، وأغلب الأوقات يمسكها بيده"
فلذلك كان
وما قراته نموذج على الإطاحة بالمعيار والميزان من رؤية الأشياء والحكم عليها
بالصحة أو الفساد، ثم تغليف الأباطيل وتزيينها بالكلمات المنمقة والعبارات
المزركشة، فالشيخ رفاعة الطهطاوي يخبرك أن الراقصة أمام الرجال في مصر تهيج
الشهوات، لكن رقصة التانجو في فرنسا، التي يلتصق فيها جسد الرجل بجسد المرأة شبه
العارية، غير خارجة على قوانين الحياء!
والطريقة
والكلمات البريئة منزوعة الدلالات، التي وصف بها الشيخ رفاعة الرقص بأنه تدافع
بالأعضاء وموازنة بينها مثل المصارعة، وكأنه يصف علاقة بين تروس في آلة، نموذج على
التدليس، الذي يمكن لأي أحد من خلاله أن يسوغ فعل أي شيء، فقط باستخدام كلمات لا
معنى لها، ووصفه بعبارات لا تعبر عن حقيقته.
فيمكننا
بالطريقة الماسونية التي وصف لك بها الشيخ رفاعة الطهطاوي الرقص، لكي يموه حقيقته
ويزين ما رأى من ربوه في فرنسا يفعلونه، أن نصف لك معاشرة الرجل للمرأة بأنها نوع
من الاحتكاك وحركات ميكانيكية هدفها توليد السوائل وتبادلها بينهما، ويمكننا أن
نصف لك معاشرة الرجل لأمه بأنها علاقة سامية يحن فيها الرجل للعودة إلى موطنه الذي
خرج منه كما يحن الطائر إلى عشه!
ثم سل
نفسك: هل الذين كتبوا هذا الكلام أرسلوا في بعثات لدراسة العلوم والعودة
لتمدين مصر، أم للمرابطة في مجال الرقص، كما يسميها الطهطاوي، والعودة خبراء في
أنواع الرقصات ؟!
وما ينبغي
أن تدركه، هو أن ما فعله رفاعة الطهطاوي بكتابه في زمانه، هو ما فعلته القصص والروايات في الزمان الذي تلاه، وهو نفسه
الذي تفعله الأفلام والمسلسلات في زماننا ، ألا وهو نقل الحياة الغربية،
وما تحويه من قيم وأخلاق وسلوك ونمط للعلاقات، في صورة جذابة مبهرجة، دون نقدها
ولا بيان فسادها ومساوئها، وبعد إسقاط أن ثمة معيارة وميزانا يجب تقييمها به
والحكم عليها من خلاله، لتكون هذه الصورة السطحية الجذابة المبهرجة وسيلة إغواء لكتل
العوام، وجذبها لتقليدها ومحاكاة ما فيها من قيم وأخلاق وأزياء ونماذج للسلوك
والعلاقات.
فإذا صارت
المجتمعات العربية الإسلامية بالمحاكاة والتقليد نسخة من الحياة الغربية، صار
وعيها وبناؤها الذهني والنفسي في قبضة من صنعوا هذا النموذج وأقاموه ويقومون عليه
في الغرب، وامتلكوا بذلك القدرة على تحريكها وتوجيهها وتسييرها إلى حيث يريدون،
وتصبح المسألة مرهونة بتطور وسائل الإعلام وقدرتهم على تجاوز الحواجز بها إلى عقول
أبناء هذه
المجتمعات
ونفوسهم. وهو ما تفهم منه لماذا أمر محمد على، الذي رمت حارة اليهود في اليونان
مصر به، تقرير كتاب الطهطاوي على تلاميذ المدارس، وأن يقرأ في قصوره ودواوین
دولته. فإليك هذه العبارة التي يصف بها رفاعة الطهطاوي أهل فرنسا، ومنها تعرف
الغرض الحقيقي من البعثات، ومن كفاح اليهود والماسون من أجل تمدین مصر، ومن الدولة
الماسونية التي أرسى أصولها محمد على.
"وقد أسلفنا أن
الفرنساوية من الفرق التي تعتبر التحسين والتقبيح العقليين، وأقول هنا إنهم ينكرون
خوارق العادات، ويعتقدون أنه لا يمكن تخلف الأمور الطبيعية أصلا، وأن الأديان إنما
جاءت لتدل الإنسان على فعل الخير، واجتناب ضده، وأن عمارة البلاد وتطرق الناس
وتقدمهم في الآداب والظرافة تسد مسد الأديان، وأن الممالك العامرة تصنع فيها
الأمور السياسية كالأمور الشرعية. ومن عقائدهم القبيحة قولهم: إن عقول حكمائهم وطبائعييهم أعظم من عقول الأنبياء وأذكى منها
".
فتنبه أن
الذي كتب هذا الكلام رفاعة الطهطاوي، الذي تلقى تعليمه في الأزهر، وكان إماماُ
وواعظاُ ، قبل أن يذهب إلى فرنسا، ولذا مسخ اليهود والماسون كل شيء في تكوينه، وفي
طريقة تفكيره وحكمه على الأفكار والأشياء، ولكن ظلت في أعماقه نواة لم يستطيعوا
الوصول إليها والعبث بها، وهي التي جعلته يتوقف عند ما يمس الذات الإلهية مباشرة
وينتقده.
ولكن هذه
النواة التي ظلت محفوظة عند الطهطاوي لم تكن عند جل تلاميذ البعثات غيره،
فقد ذهبوا
إلى فرنسا وأذهانهم ونفوسهم خالية خلاءا تاما، ليستوطنها اليهود والماسون استيطان
كاملا، ويحولوها إلى نسخ فرنسية مشوهة، ترى الوجود والحياة والمجتمع والعلاقات والعقائد
والديانات، وتفهم العلاقة بينها، كما أراد الأبالسة الذين احتضنوهم في فرنسا، ثم
يعودون حاملين لجراثيم هذا الفهم، فيكون تمدینهم لمصر أداة بث هذه الجراثيم ونشرها
وإعادة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق