الاثنين، 29 يوليو 2024

 حلقة 83

 وحرص ديليسبس علي أن تمثل الأديان السماوية الثلاثة في الحفل، وكان إسماعيل قد أقام 3 سرادقات ضخمة خصص أوسطها لملوك أوروبا وأمرائها، وعلي اليمين لعلماء الدين الإسلامي يتقدمهم شيخ الأزهر الشيخ مصطفي السقا ومفتي الديار الشيخ محمد المهدي العباسي، أما السرادق الثالث فلرجال الدين المسيحي يتقدمهم الرسول البابوي الذي افتتح خطابه بدعاء لشيخ الأزهر، وكان حضور الأمير عبدالقادر الجزائري بملابسه البيضاء قد أضفي علي الحفل قدرا كبيرا من السمو.. وكان وراء اهتمام ديليسبس بوجود ممثلي الأديان في الحفل امتدادا لرؤية نابليون بونابرت السابقة التي اكتشفت قوة الوازع الديني لدي المصريين، سواء مسلمين أو أقباطا، فحاول بدوره اللعب بنفس الورقة فقام بتوطيد علاقته بالأنبا كيرلس الرابع بطريرك الأقباط، وعلي نفس الدرجة بذل نشاطًا واضحًا في الدوائر الإسلامية، فكان يؤكد علي تشييده مسجدًا في كل ساحة من ساحات الحفر، ويردد كيف جاء ذكر مشروع قناة السويس في الإنجيل والقرآن، وكان يستشهد بكل آية تحدثت عن البرزخ أو المياه أو البحر ليثبت للمسلمين أن القرآن قد حثهم علي حفر قناة السويس امتثالا لقوله تعالي: «مرج البحرين يلتقيان. بينهما برزخ لا يبغيان. فبأي آلاء ربكما تكذبان»، ولم تقتصر حملته الدعائية علي ذلك، بل ذهب إلي أصحاب الفكر والقلم ليُقنع رفاعة رافع الطهطاوي بتأييد المشروع، وعندما زكي رفاعة أحد أئمة المساجد قام ديليسبس بتعيينه علي الفور إماما للمسجد شمالي بحيرة التمساح براتب 125 فرنكا
 وقد قام الطهطاوى بنظم قصيدتى مدح للمشروع قام شاعر فرنسي شهير بترجمتهما للفرنسية.
فى بداية عهده كانت الصحوة التى أراد معها اسماعيل إلغاء أحد بنود عقد شركة القناة الذى يُلزم مصر بتوريد العمال للحفر بالسخرة وظلت الشركة تماطل لمدة خمس سنوات ــ والعمل جارى علي قدم وساق ــ ثم أعلنت رضوخها الظاهرى
 ثم طالب الخديو بإلغاء البند الخاص بالترعة الحلوة مع إلغاء حق الشركة في الأراضى الواقعة على ضفتيها وتظاهرت الشركة بالموافقة أيضًا
 وفجأة وجدت مصر نفسها مطالبة بالتعويضات عما سبق، فإلغاء السخرة يكلف 38 مليون فرنك
 والتعويض عن الترعة 10 ملايين، وثمن ضفتي الترعة 30 مليون أخري
 ولم تكتف الشركة الناهبة بهذا بل قالت إنها لو أتمت الترعة فإنها كانت ستبيع المياه للمزارعين علي الضفتين، وكانت ستأخذ رسومًا من المراكب التي سوف تستخدمها، وقدرت كل ذلك بـ6 ملايين
 بالإضافة إلي أن هذه الترعة كان سينمو في مياهها السمك الكثير وهو أحد الموارد الخصبة التى ستخسرها أيضا. وقد بلغ مجموع التعويضات 84 مليون فرنك رفضها إسماعيل ثم قبل التحكيم أمام إمبراطور فرنسا نابليون الثالث الذي أقرَّ ــ للأسف ــ التعويضات ولم يكن أمام مصر سوي الرضوخ ليُشهر الخديو إسماعيل إفلاسه وترهن مديريات بأكملها مثل المنوفية والشرقية والجيزة ويتم الاستغناء عن مئات الموظفين لضغط المصروفات، وفي فبراير 1879 وحده أحيل إلي الاستيداع 2500 ضابط، ودخل الوزارة المصرية وزير فرنسي للأشغال ووزير إنجليزي للمالية وكان قد مات تحت الانهيارات الرملية في سنين حفر القناة ما يزيد علي المائة ألف مصرى دون دفع تعويض عنهم أو جزاء نشر
تم النشر في 14محرم 1446هـ / 22 يوليو 2024م
حلقة 84
و..ذهب ديليسبس ليوقع بحباله علي الجانب الآخر من العالم. فى بنما.. فقدم اقتراحه في المؤتمر الجغرافي الدولي الذي عقد بباريس عام 1879 حول إمكانية حفر قناة لربط المحيطين الأطلنطي والباسيفيكي، وسارع بتكوين شركة لهذا الغرض مستثمرًا النجاح الذي حققه في قناة السويس
 لكن الأمور اختلفت تماما هذه المرة، فليس في بنما من يعشق المكرونة الاسباكيتى ولا لديه عقدة الخواجة مثلنا ولا حكومة غنية يبتزها، وانتهي الأمر بتصفية الشركة لتجري الحكومة الفرنسية تحقيقا رسميا حول تجاوزات ديليسبس وولده شارل لتقدمهما للمحاكمة بتهمة التدليس وصدر ضد كل منهما حكم بالسجن لمدة 5 سنوات، وفي الطعن ألغي الحكم وأعيدت المحاكمة لوقوع خطأ في الإجراءات، وعندما حان موعد المحاكمة من جديد كان فردينان قد مات لتسقط الدعوي ضده ويسجن شارل وحده، وكان قد ثبت للمحكمة استخدام فردينان الرشوة لشراء ذمم أكثر من مسئول وعضو برلمان وعمدة ووزير مما أثار فضيحة لوثت تاريخ الجمهورية الثالثة بفرنسا..
 مات ديليسبس في 7 ديسمبر 1894 عن عمر يناهز 89 عاما وكان قد تزوج وعمره 64 عاما شابة في الواحدة والعشرين «هيلين دي براجار» التي أنجبت له ذرية بلغت12 ابنا وابنة.. مات مهندس الابتزاز بعدما وضعه المصريون في خانة الريبة، والفرنسيون في مربع الغضب، والأتراك في مهبط التشفي، وأسقط البورسعيديون تمثاله من فوق شط القناة لينكفئ علي وجهه مكسور الأنف منكس الجبهة في بدروم تحت السلم، وإن جاء في عام 2004 الكاتب المصرى أحمد يوسف المقيم بباريس ليقدم لنا فى القاهرة مؤلفه بعنوان «ديليسبس الذى لا نعرفه» من خلال مذكرات ديليسبس التى كتبها عام 1885 أى بعد 16 عاما من افتتاح القناة ويعترف يوسف أنه بكتابه هذا يسبح عكس التيار مؤكدًا أن ديليسبس قصد بحفر القناة مصلحة مصر وظل حارسًا لمصالحها طوال حياته وللإجابة عن قوله ورأيه الذى استغرق لإثباته 300 صفحة أن قومه ذات أنفسهم فى فرنسا قد اكتشفوا حقيقته عندما تعرضوا لتدليسه في
مشروع قناة بنما ليرحل مكللا بعار تلك الفضيحة تاركًا ابنه فى السجن
مات فردينان ماري ديليسبس (1805 ـ 1894) بعدما حرم مصر من تمثال الحرية للنحات الفرنسى فريدريك أوجست بارتهولد (1834 ـ 1904) الذى استلهم الفكرة من تمثال كلو سوس فى جزيرة رودس (إحدى عجائب الدنيا السبع القديمة) ليصنع تمثالا بارتفاع 90 مترا لفلاحة مصرية تحمل الشعلة (رمز منارة الاسكندرية) لتقدم مصر نور الحضارة إلى آسيا ودول العالم.. ولقد أدت مقاومة ورفض ديليسبس لفكرة التمثال ــ لما في نفس يعقوب الفرنسى ــ إلي أن يبيعه صاحبه بارتهولد للأمريكيين لينصب في نيويورك فى 1886 تعبيرا عن (الحرية شعلة استنارة العالم)..
ولقد أخطأ أحمد يوسف في ذكره بأن ناصر قد أشاد فى خطبة التأميم بديليسبس، فحقيقة الأمر أن عبدالناصر لم يأت على ذكر ديلسبس إلا بمثابة الكود الذي استخدمه وسط خطاب تأميم قناة السويس كشركة مساهمة مصرية لينتفض الرجال الأبطال لحظة سماع الاسم للاستيلاء على المراكز الحيوية بالقناة وشركتها وترتفع ألحان السمسمية وتشدو أم كلثوم محلاك يا مصرى وانت عالدفة..
----------------
حلقة 85
من تلاميذ الطهطاوي محمد قدري باشا
 
في مرحلة تالية ثم تولي محمد قدري باشا ترجمة قوانين المحاكم المختلطة تمهيدا لوضع قوانين المحاكم الأهلية الجديدة التي أراد الخديو إسماعيل أن يجعلها مكملة للمحاكم المختلطة بعد أن وجد أن القضاء الشرعي الذي كان لايزال خاضعاً لنظام الدولة العثمانية لا يمكن أن يساير التفرنج الذي كان الخديو إسماعيل يسعى اليه بخطوات واسعة، وهكذا توصل الخديو إسماعيل إلى ذلك القرار الكارثي الذي جعل المحاكم الشرعية تقتصر على قضايا الأوقاف والأحوال الشخصية، وبدأ في العمل على إيجاد قضاء أهلي بعيد عن القضاء الشرعي.
عُني محمد قدري باشا في أثناء توليه وزارة الحقانية بوضع القوانين للمحاكم الأهلية (التي تم إنشاؤها سنة 1882)، وكان هو صاحب الدعوة إلى التمهيد لذلك العمل التشريعي الكارثي الذي كانت الحكومة المصرية قد بدأت تفكر فيه
عين محمد قدري باشا مستشاراً في محكمة الاستئناف المختلطة، وهو منصب كبير يجعله مساوياً للمستشارين الأجانب الذين استقدمهم الخديو إسماعيل من أوروبا لتولي مناصب القضاء في المحاكم المختلطة. هكذا فإنه منذ منتصف السبعينيات من القرن التاسع عشر (1875) عمل قدري مستشاراً بمحاكم الاستئناف المختلطة، وظل بمنصبه حتى اختاره الخديو توفيق وزيراً للحقانية في نظارة شريف باشا في سبتمبر 1881 (وهي التي تسمي بالوزارة الدستورية)، وظل يشغل هذا المنصب حتى نهاية عهد هذه الوزارة في فبراير 1882. دخل قدري باشا الوزارة مرة ثانية وزيراً للمعارف في مايو 1883 في أثناء وزارة شريف باشا الرابعة، وبقي إلى نهاية عهد هذه الوزارة في يناير 1884، وهي الوزارة التي استقالت احتجاجا على قرار الخديو توفيق باخلاء السودان لبريطانيا في أثناء ثوة المهدي
.
عُني محمد قدري باشا في أثناء توليه وزارة الحقانية بوضع القوانين للمحاكم الأهلية (التي تم إنشاؤها سنة 1882)، وكان هو صاحب الدعوة إلى التمهيد لذلك العمل التشريعي الكارثي الذي كانت الحكومة المصرية قد بدأت تفكر فيه، بإيجاد الازدواجية بين المحاكم المختلطة والمحاكم الأهلية، كما وضع ترجمات للقانون المدني الفرنسي، وكذلك القانون الجنائي الفرنسي.  وكذلك وضع محمد قدري باشا بحوثاً في المقارنات بين أحكام الشرع والقانون المدني الفرنسي، واشترك بنفسه في وضع القانون المدني، وقانون تحقيق الجنايات، والقانون التجاري، ويذكر له أن لائحة ترتيب المحاكم الأهلية صدرت في عهده، وعندما أحيل إلى المعاش أصدر خلفه فخري باشا وزير الحقانية القوانين التي وضعها
موسوعته ذات الكتب الثلاثة
● الأول: «مرشد الحيران في المعاملات الشرعية»، وهذا الكتاب يضم المواد القانونية في المعاملات المدنية والشرعية على مذهب الإمام الأعظم أبي حنيفة، وقد أجازه شيخ الجامع الأزهر، واعترف به كبار علماء الشريعة بعد دراسات عميقة، وهوأول كتاب وضع الفقه في مواد قانونية، وهو ول كتبه الثلاثة الخالدة التي جمع فيها الشريعة الإسلامية، وصاغها في مواد على أسلوب «قانون بونابرت»، الذي كان قد شارك أستاذه رفاعة في ترجمته إلى اللغة العربية.
● الثاني: «الأحكام الشرعية في الأحوال الشخصية».
● الثالث: «قانون العدل والإنصاف في مشكلات الأوقاف».

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق