الأحد، 28 يوليو 2024

 الحلقة 17

أهل باريس" الفصل الثاني من المقالة الثالثة "
يختص أهل باريس بالذكاء ودقة الفهم وغوص ذهنهم في الغويصات وليسوا أسرى التقليد و يحبون دائمًا معرفة أصل الشيء والاستدلال عليه، حتى إن عامتهم أيضًا يعرفون القراءة والكتابة، ويدخلون مع غيرهم في الأمور العميقة
لقد دونوا كل المعارف في الكتب وكلهم يقرأون فأجادوا في أعمالهم ومشغولون بالإبتكار وتحسين الإبتكارات دوما وذلك طمعا في مال أكثر وشهرة بينهم
ومن طباع الفرنساوية التطلع والتولع بسائر الأشياء الجديدة، وحب التغيير والتبديل في سائر الأمور، وخصوصًا في أمر الملبس أي مُغرمين بالأزياء   ( وهي الآن بلد الموضة )
ومن طباعهم المهارة والخفة و الطيش والتلون والتقلب المزاجي في الأمور الغير المهمة، ولكن آراؤهم في السياسات لا تتغير، كل واحد متمسك بمذهبه ورأيه طوال عمره
 و يحبون الأسفار والإستكشاف طوافين بين المشرق والمغرب حتى إنهم قد يلقون أنفسهم في المهالك لصالح أوطانهم
يحبون الغرباء يحملهم على ذلك الرغبة في التعرف عن أحوال بلادهم وعوائد أهلها، ليظفروا بمقصدهم في الحضر والسفر
المواساة عندهم بأقوالهم لا بأموالهم ، وهم في الحقيقة أقرب للبخل من الكرم
ولكنهم ملتزمون غالبا بما عليهم من واجبات و لا يهملون أعمالهم سواء الغني والفقير
يقولون في مدح أنفسهم أنهم أخلص قلوبًا من الغنم عند ذبحها، وإن كانوا عند الغضب أشد افتراسًا من النمور
 فإن الإنسان منهم إذا غضب قد يؤثر الموت على الحياة، فقل أن يفوت زمن يسير من غير أن يقتل إنسان نفسه خصوصًا من داء الفقر أو العشق
ومن طباعهم الغالبة الوفاء بالوعد، وعدم الغدر، وقلة الخيانة والصدق، ويعتنون كثيرًا بالمروءة الإنسانية ويرون أن شكر المنعم واجب
ومن خصالهم أيضًا: صرف الأموال في حظوظ النفس، والشهوات الشيطانية، واللهو واللعب، فإنهم مسرفون غاية السرف
والرجال عندهم عبيد النساء، وتحت أمرهن؛ سواء كن جميلات
أم لا
ومشهورون بقلة عفاف كثير من نسائهم وعدم غيرة رجالهم ، ومما قاله بعض أهل المجون الفرنساوية: لا تغتر بإباء امرأة إذا سألتها قضاء الوطر، ولا تستدل بذلك على عفافها، ولكن على كثرة تجربتها
وبالجملة فباريس كباقي مدن فرانسا وبلاد الإفرنج العظيمة، مشحونة بكثير من الفواحش والبدع والاختلالات
وربما كانوا أشبه الناس بأهل أثينة القدماء  فإن عقولهم رومانية، وطباعهم يونانية
الفرنساوية من الفرق التي تعتبر التحسين والتقبيح العقليين، و ينكرون خوارق العادات، ويعتقدون أنه لا يمكن أن تخالف الأمور الطبيعية أصلاً، وأن الأديان إنما جاءت لتدل الإنسان على فعل الخير، واجتناب ضده
 وأن عمارة البلاد وتطرق الناس وتقدمهم في الآداب والظرافة تسد مسد الأديان، وأن الممالك العامرة تصنع فيها الأمور السياسية كالأمور الشرعية
ومن عقائدهم القبيحة قولهم: إن عقول حكمائهم وطبائعييهم أعظم من عقول الأنبياء وأذكى منها
ولهم كثير من العقائد الشنيعة كإنكار بعضهم القضاء والقدر، مع أن من الحكم العاقل من يصدق بالقضاء، ويأخذ بالحزم في سائر الأشياء، وإن كان لا ينبغي للإنسان أن يحيل الأشياء على المقادير أو يحتج بها قبل الوقوع، فإن من الأمثال التي سارت بها الركبان: من دلائل العجز كثرة الإحالة على المقادير، ومن كلام بعضهم: إذا وقعت المجادلة فالسكون أفضل من الكلام، وإذا وقعت المحاربة: فالتدبير أفضل من التقدير
ومنهم جماعة يعتقدون أن الله تعالى خلق الخلق، ونظمهم نظامًا عجيبًا، فرغ منه ثم لا يزال يلاحظهم بصفة له تعالى، تسمى صفة العناية والحفظ، تتعلق بالممكنات إجمالاً، بمعنى أنها تمنعها عن خلل انتظام الملك
لون أهل «باريس» هو البياض المشرب بالحمرة، وقل وجود السمرة في أهلها المتأصلين بها، وإنما ندر ذلك لأنهم لا يزوجون عادة الزنجية للأبيض أو بالعكس، محافظة على لونهم ولا يحبذون إستخدام السود في المطبخ بإعتبارهم غير نظيفين
ونساء الفرنساوية بارعات الجمال واللطافة، حسان المسايرة والملاطفة، يتبرجن دائمًا بالزينة، ويختلطن مع الرجال في المنتزهات. وربما حدث التعارف بينهن وبين بعض الرجال في تلك المحال، سواء الأحرار وغيرهن، خصوصًا يوم الأحد الذي هو عيد النصارى، ويوم بطالتهم، وليلة الاثنين في (البالات) والمراقص
يُقال إن «باريس» جنة النساء، وأعراف الرجال، وجحيم الخيل؛ وذلك أن النساء بها منعمات، سواء بمالهن أو بجمالهن وأما الرجال فإنهم بين هؤلاء وهؤلاء، فهم عبيد النساء فإن الإنسان منهم يحرم نفسه وينزه عشيقته، وأما الخيل فإنها تجر العربات ليلاً ونهارًا على أحجار أرض «باريس» خصوصًا إذا كانت المستأجرة للعربة امرأة جميلة، فإن (العربجي) يجهد خيله ليوصلها إلى مقصدها عاجلاً؛ فالخيل دائمًا معذبة بهذه المدينة
ولسان أهل باريس هو اللسان الفرنساوي من الإفرنجية المستحدثة وهو لسان الغاليين" قدماء الفرنسيس" ثم كمل من اللغات اللاتينية، وأضيف إليه شيء من اللغة اليونانية النيمساوية ويسير من لغة الصقالية وغيرها
 ثم حين برع الفرنساوية في العلوم نقلوا كلمات العلوم من لغات أهلها، وأكثر الكلمات الاصطلاحية يونانية
 ولسانهم خالي من المحسنات البديعية اللفظية و المحسنات البديعية المعنوية ، ويعدون المحسنات في العربية ركاكة
ويندر إستعمالهم للتورية فإن كانت فهي من هزليات أدبائهم وكذلك مثل الجناس التام والناقص؛ فإنه لا معنى له عندهم وتذهب ظرافة ما يترجم لهم من العربية، ما يكون مزينًا بذلك
وباقي هذا الفصل خصصه الطهطاوي لشرح اللغة الفرنسية ومقارنتها بالعربية
وعلوم العربية إثني عشر علمًا المجموعة في قول شيخنا العطار:
نحو وصرف عروض بعده لغة   ثم اشتقاق قريض الشعر إنشاء
كذا المعاني بيان الخط قافية    تاريخ هذا لعلم العرب إحصاء
هذه العلوم جديرة بأن تسمى مباحث علم العربية فقط
وعموما فلا شك أن لسان العرب هو أعظم اللغات وأبهجها
إستشهد الطهطاوي بأبيات من شعر الصوفي الأديب اليمني عبد الرحيم بن أحمد بن علي البرعي اليماني وهو من سكان جبل برع في تهامة اليمن المتوفي عام 1427م  وهي من قصيدة طويلة مطلعها
كلام بلا نحو طعام بِلا ملح   وَنحو بلا شعر ظلام بلا صبح
وَمن يتخذ علما وَيلغهما يعد   بِلا رأس مال في الكَلام وَلا ربح
اذا شرحوا فضل العلوم فانني   غني بفضل النحو عن ذلك الشرح
يَليق الخطاب اليعربي بأهله     فيهدى الوفا للنقص والحسن للقبح
ومن شرف الاعراب ان محمدا   اتى عَربي الاصل من عرب فصح
وان المَثاني انزلت بلسانه    بما خصصته في الخطاب من المدح
يَكون محال الشعر وصفا لغيره    وَيَكفيه ما في سورة الشرح وَالفَتح
لا يحسن الأعاجم التكلم بالعربية ولكنهم يفهمونها جيدا ومصداق ذلك « البارون سلوستري داساس» وهو من أكابر «باريس» وأحد أعضاء جملة جمعيات من علماء فرنسا وغيرها، وقد انتشرت تراجمه في «باريس» وشاع فضله في اللغة العربية، حتى إنه لخص شرحًا للمقامات الحريرية، وسماه مختار الشروح، وقد تعلم اللغة العربية على ما قيل بقوة فهمه، وذكاء عقله، وغزارة علمه، وأورد الطهطاوي كثيرا من كتابات دو ساسي العربية وقال عنه (فمعرفته خصوصًا في اللغة العربية مشهورة، مع أنه لا يمكنه أن يتكلم بالعربي إلا بغاية الصعوبة ) ومن جملة مؤلفاته الدالة على فضله، كتاب في النحو سماه: «التحفة السنية في علم العربية» ( موجود ومصور على الإنترنت )
(أبو نصر محمد بن محمد بن أوزلغ بن طرخان الفارابي
 أَبُو نصر الظريفي الأبيوردي ، أبو النصر الهزيمي الأبيوردي المعافي بن هزيم أبو النصر الأيبوردي الهزيمي أديب أيبرود و شاعرها )
هذه الأبيات نسبها دوساسي في كتاب الطهطاوي للفارابي (وفي مدونة الشعر العربي و بوابة الشعراء أيضا )
ومرة للهزيمي في بوابة الشعراء أيضاً ويتيمة الدهر للثعالبي
لما رَأَيْت الزَّمَان نكساً  وَلَيْسَ فِي الصُّحْبَة انْتِفَاع
كل رئيسٍ بِهِ ملالٌ   وكل رأسٍ بِهِ صداع
لَزِمت بَيْتِي وصنت عرضا   بِهِ من الْعِزَّة امْتنَاع
اشرب مِمَّا اقتنيت رَاحا  لَهَا على راحتي شُعَاع
لي من قواريرها ندامى  وَمن قراقيرها سَماع
وأجتني من حَدِيث قوم   قد أقفرت مِنْهُم الْبِقَاع
ووجدتها منسوبة الى عبد الله بن محمد بن يوسف العبدلكاني، أبو محمد الزوزني ولكن بزيادة هذا البيت ووضعه كرقم 3
وكــل نــذلٍ بــه ارتـفـاعٌ    وكـــل حـــرٍّ بـــه اتـــضــاع
 
وأبيات أخري نسبها دوساسي  للفارابي أيضاً ووجدتها منسوبة لابن سينا
أخي خلّ حّيز ذى باطل  وكن للحقائق في حيّز
فما الدار دار مقام لنا  وما المرء في الأرض بالمعجز
تنافس هذا لهذا على  أقلّ من الكلم الموجز
محيط السموات أولى بنا  فكم ذا التخلف في المركز
وما نحن إِلا خطوط وقعن على نقط وقع مستوفز
ونستكمل مع الطهطاوي حديثه
" ثم إن الفنون باللغة الفرنساوية قد بلغت درجة أوجها حتى إن كل علم فيه قاموس مرتب على حروف المعجم في ألفاظ العلوم الاصطلاحية، حتى علوم السوقة، فإنها لها مدارس كمدرسة الطباخة، ، يعني مجلس علماء الطباخة وشعرائها، وإن كان هذا من أنواع الهوس، غير أنه يدل على اعتناء هذه البلاد بتحقيق سائر الأشياء، ولو الدنيئة وسواء في ذلك الذكور والإناث، فإن للنساء تآليف عظيمة ومنهن مترجمات للكتب من لغة إلى أخرى، مع حسن العبارات وسبكها وجودتها، منهن من يتمثل بإنشائها ومراسلاتها المستغربة، ومن هنا يظهر لك أن قول بعض أرباب الأمثال: جمال المرء عقله، وجمال المرأة لسانها، لا يليق بتلك البلاد، فإنه يسأل فيها عن عقل المرأة وقريحتها وفهمها وعن معرفتها
."
" ثم العلوم الأدبية الفرنساوية لا بأس بها، ولكن لغتها وأشعارها مبنية على عادة جاهلية اليونان وتأليههم ما يستحسنونه، فيقولون مثلا: إله الجمال، وإله العشق، وإله كذا، فألفاظهم في بعض الأحيان كفرية صريحة وإن كانوا لا يعتقدون ما يقولون، وإنما هذا من باب التمثيل ونحوه. وبالجملة فكثير من الأشعار الفرنساوية لا بأس به، "
ثم أورد الطهطاوي شعرا فرنسيا بعد أن ترجمه وأعاد صياغته وختم الكلام بقوله" وهذه القصيدة كغيرها من الأشعار المترجمة من اللغة الفرنساوية عالية النفس في أصلها، ولكن في الترجمة تذهب بلاغتها، فلا تظهر علو نفس صاحبها، ومثل ذلك لطائف القصائد العربية، فإنه لا يمكن ترجمتها إلى غالب اللغات الإفرنجية من غير أن يذهب حسنها، بل ربما صارت باردة، وسيأتي تتميم الكلام على غالب الآداب الفرنساوية والعلوم والفنون "

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق